وسط انقسام حاد جاءت ولادة اللجنة التأسيسية للدستور، في وقت كنا فيه أحوج ما نكون الى التوافق لنجتاز ما تبقى من عمر المرحلة الانتقالية بهدوء وسلام، إلا أن الأمر يكاد يتحول الى فتنة، وموقعة فيها غالب ومغلوب، مع أن الدستور يحتاج الى توافق مجتمعي، ومشاركة لا مغالبة، وإلا فإن الخسارة سوف تطول الجميع اذا تحول إعداد الدستور الى معركة فيها غالب ومغلوب. الدستور للأجيال الحالية والقادمة، لكنه ليس قرآنا فهو قابل للتعديل والتغيير حسب مقتضيات الظروف والأحوال، ومع ذلك فمن الأفضل أن يتم إعداد دستور بروح إيجابية منفتحة حتى لا يكون عرضة للتعديل والتغيير على فترات زمنية متقاربة، فلا يصح اذا تغيرت المعادلة السياسية وأصبحت الأغلبية معارضة والمعارضة أغلبية، أن نبدأ من جديد في تغيير وتعديل الدستور ليتوافق مع التركيبة السياسية الجديدة، ومن هنا تأتي أهمية التوافق في إعداد الدستور ليكون ملائما لكل الاحتمالات بغض النظر عمن يملك الأغلبية حاليا، فالدستور لا يعرف هذا الفصيل أو ذاك وانما هو خطوط عامة ترسخ الحريات والعدالة والمساواة بين المواطنين، وتفصل بين السلطات بحيث لا تجور سلطة على أخرى مما يحقق التوازن داخل المجتمع، وبما يؤدي في النهاية الى تقوية مؤسسات الدولة المختلفة سواء أكانت التنفيذية أم التشريعية أم القضائية. كان على تيار الإسلام السياسي، سواء كان حزب الحرية والعدالة أم النور أو غيرهما من الأحزاب ذوات التوجه الإسلامي، أن تقود زمام المبادرة باعتبارهم أحزاب الأغلبية، وأن تقدم النموذج والقدوة في هذه المرحلة الحساسة التي يتشكك فيها الجميع ضد الجميع، والاتهامات سابقة التجهيز تلاحق الكل، والأصوات الزاعقة تنطلق دون تمييز، وشعار من ليس معنا فهو ضدنا هو السائد، وتلك هي بعض حساسيات المرحلة الانتقالية التي تعقب الثورات في كل المجتمعات، وتبقى الأصوات العاقلة هي فرس الرهان في تلك المرحلة بكل تعقيداتها ومشكلاتها، إلا أن تيار الإسلام السياسي للأسف الشديد حاول فرض ارادته وبعد أن كان هو الذي يطرح 40% من داخل البرلمان و60% من الخارج، وكانت هناك تحفظات كثيرة على هذه النسبة إلا أنه بمنطق الغالب والمغلوب تم التعامل مع تلك القضية الحساسة لترتفع النسبة الى 50% من الداخل، و50% من خارج البرلمان، لتزداد الأزمة تعقيدا ويزداد الانقسام حدة، ويتحول إعداد الدستور الى فتنة تحتاج الى تدخل العقلاء لوأدها في مهدها قبل أن تتفاقم. هناك سؤال مهم لابد من الإجابة عنه، أولا لنضع الأمور في نصابها وهو: هل يجب إعداد دستور على مقاس الإخوان أو السلفيين أو الأحزاب الليبرالية أو الأحزاب الاشتراكية؟! الإجابة بالقطع لا، فالدستور لابد أن يكون على مقاس هؤلاء جميعا، ويضمن فرصا متساوية لكل هؤلاء دون تمييز والحكم في النهاية للشعب، فإذا رغب الناخب في اختيار أي فصيل سياسي فهذا حقه، وان لم يرغب فهذا حقه أيضا في اطار مبدأ التداول السلمي للسلطة، وإلا لايمكن أن يكون دستورا اذا تم تفصيله على مقاس هذا التيار أو ذاك لأن الدستور أب لكل القوانين، واذا صدر قانون معيب به شبهة تمييز أو عدم مساواة أو انتقاص من حق فئة من المواطنين يتم اللجوء فورا الى المحكمة الدستورية للفصل في مشروعية هذا القانون تمهيدا لتعديله أو حتى إلغائه كما حدث مرات عديدة في مصر، وكما يحدث في كل دول العالم التي ارتضت بالديمقراطية طريقا، وبدولة القانون عنوانا، وبالمساواة والعدالة نهجا ومسلكا. كل هذا يؤكد أنه لا داعي لتخوف الإسلاميين اذا تم إعداد دستور عصري يحافظ على الهوية الإسلامية للدولة، والثوابت الوطنية ماداموا هم مطمئنين الى تأييد الناخبين، واذا لم يكن هناك تخوف لدى الإسلاميين فعليهم السعي لطرح مبادرات توافقية باعتبارهم الأغلبية للتواصل مع باقي الفصائل السياسية، وطمأنتهم فعلا وقولا بأن الدستور سوف يكون للجميع محققا طموحات كل أبناء الشعب المصري بكل أطيافه السياسية وفئاته وطوائفه، فتلك هي طبيعة الدساتير المحترمة التي يستحقها الشعب المصري بعد ثورته الرائعة التي شهد لها العالم أجمع وانصهر فيها كل الشعب بكل فئاته وطوائفه وأطيافه السياسية. لا نريد العودة الى الوراء، وبقليل من الحكمة نتجاوز معركة وفتنة الدستور الى إعداد دستور للجميع يسهم في ترسيخ فكرة التمكين لكل أبناء الوطن دون تمييز. نقلا عن جريدة الأهرام