عندما تقدمت وزارة المالية في حكومة عصام شرف الأخيرة بمذكرتها عن مشروع قانون لمعالجة التفاوت في المرتبات الحكومية, فإنها رأت الأخذ بمبدأين لتحقيق هذا الغرض الأول هو توفير الشفافية حول ما يدفع للموظفين من المال العام, والثاني هو الربط بين الحدين الأدني والأعلي للدخول وبحيث لا يزيد الحد الأقصي علي نسبة محددة من الحد الأدني. وقد احتل الحديث عن الحد الأقصي للمرتبات مكانا بارزا في المناقشات العامة في حين أن خطورة مبدأ الشفافية لا تقل, إن لم تزد, علي خطورة التفاوت في المرتبات بين الحدين الأدني والأعلي. وقد أكدت المذكرة المتقدمة أن الشفافية تمثل أحد أهم أسس الديمقراطية. فعلي حين تتطلب الحرية وحقوق الانسان احترام خصوصية الفرد وحرمة حياته الخاصة, فإنها تتطلب كذلك بالمقابل الشفافية الكاملة في تصرفات المسئولين ومدي استخدامهم لسلطاتهم. ولا شك أن المال العام, وهو مملوك للشعوب, هو أحد أهم وسائل الدولة في ممارسة سلطاتها. لذلك فإن الشفافية حول ما يحصل عليه الموظف من مرتبات وبدلات ومكافآت غيرها من المال العام, أو بصفته ممثلا للسلطة, لابد أن يكون قابلا للإعلان دون حجر أو قيد. فلا سرية علي استخدام أموال الشعب. والشفافية تقوم بدور أكثر فاعلية, وهو أنه مع معرفة المسئولين بأن ما يحصلون عليه من الأموال العامة أو بمناسبتها سيكون محلا للشفافية والعلانية, فمن شأن ذلك أن يثبط من المبالغة والإسراف. فلا شئ يشجع علي الانحراف والمبالغة أكثر من السرية والكتمان. فالشفافية ليست فقط ضرورية للمساءلة اللاحقة, ولكنها أيضا وسيلة مسبقة لمنع الانحرافات أو علي الأقل تقليلها. هذا كله مفهوم ومقبول. ولكن ما هي حدود تطبيقه. مفهوم أن يطبق هذا المبدأ علي الدولة دون الأفراد من القطاع الخاص. فاحترام خصوصية الفرد وحرمة حياته الخاصة تحول دون أن تجعل من دخولهم وإنفاقهم خبرا مشاعا متاحا للقاصي والداني. حقا, يلتزم المواطن بأن يقدم إقرارا عن دخله لمصلحة الضرائب لكي يدفع للدولة حصتها مقابل ما يتمتع به من خدمات لوجوده في إطار مجتمع منظم ومستقر, ولكن تظل هذه المعلومات سرية وتلتزم مصلحة الضرائب باحترام خصوصية الأفراد وأسرارهم. وليس الأمر كذلك فيما يحصل عليه الموظفون والعاملون في الحكومة من دخول في شكل مرتبات ومكافآت وغيرها من المزايا المادية, فالأمر هنا يتعلق بالتصرف في المال العام المملوك للشعب في مجموعه, ومن حق الشعب أن يعرف كيف ينفق هذا المال, ومن يحصل عليه؟ ولماذا؟ كل هذا لا خلاف عليه. ولكن ما المقصود بالحكومة هنا؟ هل هي السلطة التنفيذية فقط, أم أن الأمر ينصرف إلي السلطة التشريعية أيضا؟ لا جدال في أن أعضاء البرلمان, وكذا المجالس المحلية, ليسوا موظفين في الدولة بقدر ما هم ممثلون عن الشعب أو المحليات, لمراقبة السلطات التنفيذية, وبالتالي فإنهم لا يدخلون في عداد مفهوم الحكومة بالمعني السائد. ولكن, ومن ناحية أخري, فإن ما يحصلون عليه من مكافآت وبدلات وغيرها من مزايا مادية تدفع أيضا من الأموال العامة للشعب. وبالتالي فإنه من حق المواطن العادي أن يعرف كم يكلفه ممثله في المجالس الشعبية أو المحلية. وقد أثار موضوع المكافآت المالية لممثلي الشعب في المجالس التشريعية جدلا كبيرا في معظم الدول. فالأصل هو أن عضوية البرلمان هي عمل سياسي وطني وليست وظيفة يتكسب منها النائب, تماما كما هو الحال للتصويت في الانتخاب. فلا أحد يعوض لقيامه بواجبه الانتخابي. ومن هنا فإنني اعتقد أنه ليس من الحكمة أن تفرض غرامة علي من يتخلف عن أداء واجبه الوطني. فإذا لم يجد المواطن, من تلقاء نفسه, ما يدفعه إلي أن يقوم بواجبه في التصويت في الانتخابات, فإن الغرامة- أو الأصح الخوف من دفع الغرامة- لن تحقق الغرض منها. فمن يذهب إلي صندوق الانتخاب خوفا من دفع الغرامة وليس من إحساس بواجبه الوطني, سوف يكون غالبا مستعدا للتصويت لمن يدفع له أكثر. العمل السياسي الوطني لا يكون إلا بدافع شخصي واقتناع داخلي. أما دفع الغرامة فليس سبيلا لحث المواطنين علي أداء التزاماتهم الوطنية. وبصرف النظر عن موضوع الغرامة عند التخلف عن القيام بالمشاركة في الانتخابات, فإن عدم تعويض ممثلي الشعب في الهيئات التشريعية بأي نوع من المكافأة المالية علي جهودهم يمكن أن يحرم العديد من أبناء الشعب من التقدم للانتخاب وتحصره في فئة القادرين غير المحتاجين, وبذلك يغلب علي النواب طبقة الأثرياء. ومن هنا فقد اتجه الرأي في معظم الدول إلي ضرورة تعويض ممثلي الشعب في البرلمان بشكل ما مقابل ما يتحملونه من مصاريف للقيام بواجباتهم البرلمانية أو لتعويضهم عن الخسائر المادية التي يتحملونها. فالغالبية من أعضاء البرلمان يأتون من مناطق أخري لحضور الجلسات في العاصمة مما يحملهم أعباء مادية قد تفوق طاقتهم. لكل ذلك, هناك اتفاق, في معظم الدول, علي منح الأعضاء مكافآت مالية دون مبالغة. كذلك, فإن عضوية البرلمان ليست مهنة يكتسب منها, والغالبية من أعضاء البرلمان يمارسون أشغالهم الأساسية سواء في المهن الحرة أو التجارة أو غيرها. فالمشاركة في عضوية البرلمان ليست مهنة لكسب الأرزاق, بقدر ما هي واجب وطني وعمل سياسي. ولكنها أيضا, وبالمقابل, ليست عقوبة مالية تكلف النائب أكثر مما يطيق, وبالتالي ينبغي تعويضه دون إفراط أو تفريط. ويظل تحديد المستوي الأمثل لمكافأة عضو البرلمان أمرا صعبا يمكن أن تختلف حوله الرؤي ووجهات النظر. ويبدو لي أن المخرج الوحيد لهذه المشكلة هو الشفافية الكاملة لكل ما يحصل عليه أعضاء البرلمان. فالشعب سوف يدرك بحسه ما هو المستوي المعقول لمكافأة عضو البرلمان في ضوء ظروف البلد وأوضاعه, وبما يسمح بإتاحة الفرصة كاملة لدخول البرلمان دون قصره علي القادرين من ناحية, ودون أن يتحول إلي سلعة تجذب المنتفعين لمجرد الاستفادة المادية من ناحية أخري. فالشفافية هي إعادة الحكم والتقدير للمواطنين والرأي العام حول ما يعتبر المقابل العادل لجهود ممثلي الشعب في البرلمان. ولا ننسي أننا في بلد يقل فيه متوسط الدخل الفردي عن ألف جنيه في الشهر, ولابد وأن تحدد مكافأة النائب في ضوء هذه الحقيقة. كذلك ينبغي أن نتذكر أننا ورثنا نظاما سياسيا برع في استخدام وسائل الترغيب المادي في السيطرة علي النفوس وشراء الذمم باستخدام الإغراءات المادية لمراكز السلطة بالعديد من المزايا المالية المشبوهة. فقد استمر جدول المرتبات المنخفضة للموظفين علي ما هو عليه لعقود طويلة, في الوقت نفسه الذي ظهرت فيه مسميات جديدة تمنح لكبار الموظفين وغيرهم تحت أسماء بدلات ومكافآت وحوافز واثابة مما خلق أوضاعا مرتبكة في القطاع الحكومي. فعلي حين ظلت معظم المرتبات علي ضعفها الموروث, عرفنا أن عددا من كبار الموظفين وصنائعهم يحصلون علي دخول شهرية تقدر بمئات الآلاف من الجنيهات. ولحسن الحظ, تنبهت الحكومة, أخيرا, فوضعت إطارا لتحديد الحد الأقصي وربطه بالحد الأدني. وهي بداية مشجعة. ولم يكن البرلمان بعيدا عن هذه الممارسات, فإلي جانب ما كان يحصل عليه النائب من مكافأة شهرية كان يمنح أيضا بدل حضور الجلسات واللجان, وكما لو لم تكن الوظيفة الرئيسية للنائب هي حضور الجلسات واللجان. وقد سمعنا أن هذا الأسلوب قد ساعد علي انتشار أعمال غير لائقة من النواب الذين كانوا يطلق عليهم النواب المحترمون بأن يسجل البعض الحضور لزملائهم الآخرين الغائبين للحصول علي البدل. كما كان البعض يحضر دقائق لتسجيل اسمه وضمان الحصول علي البدل ثم الانصراف بعد ذلك. وهي أعمال أقل ما توصف به أنها أعمال غير محترمة من النواب المحترمين. الحقيقة أن دفع بدلات للحضور لوظيفة جوهرها حضور الجلسات, هو أحد مظاهر اللامعقول. كذلك كانت هناك بدلات السفر المبالغ فيه. وقد استغل النظام السابق هذه المزايا المادية لترويض النواب. للمال العام حرمة, ونواب الشعب في البرلمان هم حراس الأمة علي حماية هذا المال من العبث, ومسئوليتهم لا تقتصر علي مساءلة الحكومة وإنما بإعطاء المثل بأنفسهم بالشفافية الكاملة وإعلان كل ما يحصل عليه النائب من مزايا ومكافآت مالية نتيجة قيامه بواجبه. وعلي البرلمان أن يتخذ هذه الخطوة رغم أنف المعارضين, مع أن الحديث عن الأنف قد يثير شجون البعض. والله أعلم. نقلا عن صحيفة الاهرام