هذه السطور ليست لتبرئة الجهات السيادية والتنفيذية والنيابية والقضائية من ملابسات وتداعيات وبصمات جريمة التمويل الأجنبي وإلصاقها بفاعلين آخرين. بقدر ما هي اعترافات، وإقرار بالذنب والإثم، تبرع بسرده إعلامي مصري قدير، يده في النار، وفي فمه ماء، وفقا لتعبيره، شارك- هو الآخر ودون أن يدري- في تسويق وإبراز المشهد السياسي والإعلامي العبثي والسخيف والمثير للسخرية والأسى، والمرتبط بما يمكن تسميته ب "مسخرة" التمويل الأجنبي، وما صاحبها من إسفاف وتضليل للرأي العام المحلي والخارجي!! هذا الإعلامي القدير(رفض ذكر اسمه!!) عايش تجربة مهنية وصحفية قاسية، خلال الأشهر الماضية، وبالتحديد منذ سقوط رأس النظام الفاسد المستبد، ومنذ كنس رموزه وبطانته وأبواقه في 11 فبراير2011. تصور صاحبنا الإعلامي- لأول وهلة وفور التخلص من رأس النظام الفاسد المستبد- أن مصر سوف تدخل مرحلة جديدة ونظيفة تماما من كل موبقات الماضي الكئيب، اندفع بخياله ورومانسيته النقية إلى آفاق رحبة من الحماس للثورة والثوار، حاملا شعارات العيش والحرية والعدالة الإجتماعية، متيقنا أن سلطات الدولة وأجهزتها السيادية والتشريعية والتنفيذية والأمنية، بل كل فئات المجتمع (بمن فيهم الإعلاميون) يسيرون جميعهم في الاتجاه- ذاته- من الانحياز الكامل للثورة والثوار، والولاء التام للأهداف المشروعة في تحقيق الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية وبناء الدولة المدنية الحديثة. مثلما شهدت مصر من ثورة مضادة عنيفة، برعاية بدت رسمية في كثير من الأحيان والمواقف والأحداث المؤسفة، تعرض صاحبنا الإعلامي لصدمات وإحباطات متتالية ليس فقط في محيط عمله الصغير، عندما جرى اختيار الأسوأ والأكثر انتهازية وعداء للثورة والثوار، في المواقع القيادية، تحت شعار التغيير، بل توالت أيضا الضربات القاصمة للثورة والثوار في العديد من مواقع العمل والإنتاج والخدمات والأمن وصولا إلى استحواذ ما نسميه باللهو الخفي والطرف الثالث على المشهد العام وذلك من خلال معاقبة الشعب كله على ثورته الفتية، حسب تعبير الجنزوري. فوجئ الإعلامي المصري القدير باستمرار العقليات القيادية الإنتهازية ذاتها في مواقعها كما هي، وربما جرى تصعيد بعضها إلى مراتب قيادية أعلى، مع إصرار مستميت على الانفراد باتخاذ قرارات النشر والبث المرئي أو المسموع، ضمن فرق عمل أقرب ما تكون إلى شكل من أشكال التنظيم العصابي، المنتمي في مصالحه وقناعاته وممارساته وسياساته التحريرية والإدارية، إلى الماضي بكل ما يتصف به من فساد وإستبداد. باختصار، استيقظت مصر الثورة لترى نفسها أمام قيادات إعلامية وصحفية جديدة، بوجوه كالحة وانتهازية فاسدة، تتبوأ المشهد جنبا إلى جنب مع أصحاب القرار المحسوبين بكل أسف على أجندة التغيير، وهم في واقع الحال ممن باعوا ضمائرهم للشيطان، وممن يمكن وصفهم عموما بالمتلونين والجالسين على كل الموائد. لذلك لم يكن غريبا بأي حال من الأحوال ضبط هؤلاء الإعلاميين الانتهازيين والصحفيين الفاسدين والمتلونين وهم متلبسون بكتابة تقارير وتمرير واعتماد قصص أمنية مفبركة واتهامات جزافية مغرضة لأفراد ولناشطين بينهم صحفيون ولمنظمات أهلية وحقوقية محلية وخارجية، وإخراج المشهد المثير بالبنط العريض وعلى صدر الصفحات الأولى، بالضبط، كما جرى العرف على تسويقه وإبرازه في الزمن المباركي الردئ، وأبسط دليل يمكن مراجعته في مانشيتات الصحف ونشرات الأخبار المقروءة والمسموعة والمرئية طوال الأسابيع الماضية. لقد حاولت أن أنقل هنا بصدق وبإخلاص هذه الفقرات من اعترافات أحد الإعلاميين القديرين ( رفض ذكر اسمه) وإقراره بالذنب لارتكاب إثم كبير لمجرد مشاركته بدور ما، أوتحمل المسئولية بالمشاركة مع آخرين، في التناول الإعلامي المخزي لقضية التمويل الخارجي، جنبا إلى جنب مع الأخطاء القاتلة التي ارتكبتها أجهزة سيادية وتنفيذية وقضائية أخرى، فضلا عن إحساس هذا الإعلامي بخيبة الأمل من استمرار السياسات الإعلامية الرسمية والقومية المضللة للرأي العام على حالها المقيت، وربما أسوأ مما كانت عليه قبل ثورة 25 يناير. أرى إنه من المهم جدا في هذه المرحلة كشف الواقع الإعلامي المرير وذلك مع بدء الإجراءات القانونية لانتخاب أول رئيس للجمهورية بعد ثورة 25 يناير، وتزامنا مع الترتيبات الخاصة بتشكيل اللجنة التأسيسية لصياغة الدستور الجديد فضلا عن الاتجاهات إلى إجراء تغييرات شاملة لقيادات الصحف القومية، أملا في إعادة المصداقية للأداء الإعلامي الحكومي والقومي. نقلا عن جريدة الأهرام