سنعود مرة أخري, وسنعود بعدها مرات ومرات لنقول إن مجلس الشعب الذي يريد أن ينفرد بوضع الدستور لاحق له في وضع الدستور. وإنما الدستور هو صاحب الحق في أن يوجد قبل مجلس الشعب وقبل غيره من مؤسسات الدولة. لأن الدستور هو الأساس الذي ينهض عليه ويستند إليه ويستمد شرعيته كل بناء سياسي. فإذا كان المسئولون عن الحكم الآن وفي مقدمتهم المجلس العسكري وحلفاؤه قد قرروا أن يعكسوا الآية ويقلبوا البناء رأسا علي عقب, ويجعلوا التحت فوقا والفوق تحتا فهم يهدمون ولا يبنون! ولقد يقال إن مجلس الشعب انتخب بناء علي الإعلان الدستوري الصادر عن المجلس العسكري فنقول: نعم! ولكنه ضرب بهذا الإعلان عرض الحائط. فالمادة الرابعة في هذا الإعلان تمنع مباشرة أي نشاط سياسي أو قيام أحزاب سياسية علي أساس ديني. وأغلبية أعضاء مجلس الشعب ينتمون لأحزاب دينية, ويريدون اليوم أن ينفردوا بوضع الدستور سواء بأشخاصهم أو بمن يختارونهم. وفي هذه الحالة لن يكون الدستور قانونا أساسيا يشارك كل المصريين في وضعه كما هو المتبع في وضع الدستور, ويجعلونه أساسا راسخا لحياتهم يستوحون مبادئه من خبرات الماضي ودروسه ومن تحديات الحاضر وأحلام المستقبل, وإنما سيكون الدستور الذي يضعه الإخوان المسلمون والسلفيون دستورا للإخوان والسلفيين وحدهم, يؤيد سلطانهم, ويبرر طغيانهم, ويتناقض مع فكرة الدستور, ومع طبيعة الدولة الحديثة, وحقوق الأمة, وحقوق الإنسان, ومع مبدأ المواطنة وغيره من المبادئ والقيم والنظم التي استخلصتها البشرية وتعلمتها من تجاربها المريرة في الخروج من عصور الطغيان الديني والعسكري التي تعيش فيها الأحزاب الدينية وحلفاؤها حتي اليوم! والدستور كلمة مركبة أو منحوتة من كلمتين فارسيتين تؤديان معني المقام الرفيع الذي يتمتع به شخص ما أو مبدأ متفق عليه, فالقانون المتبع أو القاعدة المرعية دستور, وصاحب البيت الذي نستأذنه في الدخول دستور. وقد اصطلحنا علي أن نسمي القواعد والمباديء الكلية التي تشخص الجماعة وتتأسس عليها الأحكام والتشريعات دستورا. فالدستور هو أبوالقوانين. أو هو العقد الأصلي الذي يجب أن يعبر عما هو جوهري ودائم, فلابد أن يكون محل اتفاق وإجماع, لأنه الحكم الذي سيرجع إليه أفراد الجماعة في شئونهم المختلفة وفي أجيالهم المتتابعة. يرجعون إليه كمواطنين يتفقون جميعا في أنهم مواطنون وإن اختلفوا بعد ذلك في كل شيء, وعبروا عن اختلافاتهم واجتهاداتهم بالقول والفعل ضمن الحدود التي وضعوها لأنفسهم, وبالصورة التي لاتتعارض مع القانون الأساسي الذي يمثل جماعتهم ويحمي وحدتهم. أما إذا اختلفوا من الأصل وفشلوا في الوصول إلي عقد اجتماعي يكون محل إجماعهم فهم معرضون لخطر من اثنين: إما أن ينقسموا علي أنفسهم ويتمزقوا كما تمزق السودان, وباكستان, وإما أن يستعبد بعضهم بعضا ويطغي بعضهم علي بعض كما كان حال البيض والسود في جنوب إفريقيا وفي الولاياتالمتحدة. هكذا يتحتم أن يكون الدستور محل اتفاق الجميع حتي يمكنهم أن يقفوا علي أرض واحدة صلبة يمارسون حياتهم, ويختلفون ويتعددون دون أن ينال الاختلاف من وحدتهم. وفي هذا يقول دافيد هيوم, وهو واحد من فلاسفة التنوير الذين أسسوا الفكر السياسي الحديث إذا لم يكن هناك اتفاق سابق, فلماذا تقبل الأقلية قرار الأغلبية؟ يعني أن الأقلية تقبل قرار الأغلبية لأنها تعلم أنهما معا طرفان سياسيان في جماعة واحدة. وهناك معني آخر يمكن أن نستنبطه من هذه العبارة هو: إذا لم يكن هناك اتفاق سابق بين أطراف الجماعة الوطنية فهناك اختلاف سابق يمنع الاتفاق, والسياسة ليست سبب هذا الاختلاف. لأن مواقفنا في السياسة تتغير وتتبدل. فنحن اليوم في الأغلبية وغدا في الأقلية. واختلافنا في هذه الحدود ليس انقساما أو انشقاقا, وإنما هو بحث عن الأصوب والأفضل وتحقيق للمصلحة العامة طالما كان هناك اتفاق أصلي, أما إذا لم نصل إلي هذا الاتفاق الأصلي فنحن نحتكم لما نختلف حوله من الأصل كالدين أو العرق, ونقدمه علي الرابطة الوطنية المشتركة. وفي هذه الحالة تظل الأقلية أقلية والأكثرية أكثرية, وتظل السلطة في يد الطرف الأقوي, ولايبقي للطرف الضعيف إلا أن يكون منبوذا مضطهدا, وهذا هو الخطر الذي يمكن أن نواجهه إذا نجح الإخوان والسلفيون في إقامة دولة دينية تضطهد فيها الأقليات الدينية والقوي السياسيةالمعارضة, أو تجد نفسها معزولة محرومة من المشاركة. من هنا يتحتم أن يكون الاتفاق حول الدستور إجماعا تعبر فيه الأمة عن وجودها وتؤكد وحدتها, وتعطي بعد ذلك أفرادها الحق في أن يختلفوا ويتعددوا, دون أن يؤدي الاختلاف إلي التمزق والانقسام. فالجماعة تحمي كل فرد من أفرادها لأنه ينتمي لها ويتفق معها في المبادئ الأساسية التي يؤمن بها الجميع, وإن كانت له آراؤه وارتباطاته التي تميزه عن غيره. وفي هذا يقول هيوم لابد من ايجاد نوع ما من الاتحاد من شأنه استخدام قوة المجتمع كلها في حماية شخص كل عضو من أعضائه وممتلكاته, وذلك بطريقة تجعل كل فرد إذ يتحد مع قرنائه وإن اختلف معهم أحيانا إنما يطيع إرادة نفسه ويظل حرا كما كان من قبل. علي هذا الأساس تكون المواد التي تحدد دينا للدولة أو تجعل الشرائع الدينية مصدرا للقوانين مواد غير دستورية. لأن الدستور تعبير عما نتفق حوله, وليس عما نختلف فيه. بإمكان كل منا أن تكون له عقيدته الدينية ومذهبه فيها وباستطاعته أن يكون رأسماليا أو اشتراكيا, محافظا أو متحررا, لكنه مطالب قبل كل شيء بأن يكون مواطنا مصريا ينتمي لمصر من حيث هي مكان وتاريخ, وجود حي متواصل عريق ممتد لايمكن اختصاره في عصر أو ثقافة أو دين. وفي العصور الوسطي عندما كانت العقيدة الدينية هي الرابطة الجامعة كانت الدولة دينية, وكانت الشرائع السماوية هي الدستور الذي يحتكم له الناس. أما في العصور الحديثة التي قامت حياتها وحضارتها علي احترام الحريات والاحتكام للعقل فيما يستطيع العقل أن يدركه, وعلي التمييز بين مايكون للفرد ومايشترك فيه الجميع, فالمواطنة هي الرابطة التي تفرض علينا أن نبدأ منها ونرجع إليها, وأن نفصل بين مايجب أن نتولاه بأنفسنا من أمور الدنيا وما نتلقاه عن السماء. بين انتمائنا للوطن, وانتمائنا للدين. وهذا ما تتجاهله الأحزاب الدينية التي فرضت علينا هي والمجلس العسكري الحاكم إجراء الانتخابات قبل أن نستعد لها وقبل الدستور الذي ينظمها لتنفرد بوضعه وهكذا تحكم الفرع في الأصل. واستخدم مجلس الشعب في تزييف الدستور. وضربت الديمقراطية بيد الديمقراطية! نقلا عن صحيفة الاهرام