اكتشف البشر عبر التاريخ أن تركيز السلطة في يد واحدة يجعلها مطلقة. كما تبين لهم أن السلطة المطلقة هي مفسدة مطلقة تضع الشعب كله رهن حاكم فرد لابد أن تفسده غواية السلطة إذا لم يكن هناك من يصوبه وينتقده ويراقبه ويحاسبه. ويزداد خطر تحول السلطة المركزة بين يدي شخص واحد إلى مفسدة مطلقة في غياب ثقافة مجتمعية ديمقراطية، إذ يستند الحاكم في هذه الحالة إلى ميراث استبدادي قوي مثل ذلك الذي لا نزال نحمله على كاهلنا وتشتد حاجتنا إلى التحرر منه. ويتطلب ذلك أن نحسن اختيار هيكل نظامنا السياسي الجديد بمنأى عن تركيز السلطة التنفيذية. وربما يكون خير سبيل إلى ذلك، أو أحد السبل، هو توزيع السلطة التنفيذية بين رأسين ضمانا لعدم تركزها في يد واحدة. ويتطلب ذلك توزيع هذه السلطة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في نظام أقرب ما يكون إلى ما يعرف بنظام الحكم المختلط. ففي ظل هذا النظام يمكن أن يأتي رئيس الدولة من أحد الأحزاب أو يكون مستقلا، ويكون رئيس الحكومة من حزب آخر. فقد يرغب الناخبون في ذلك إما لأن الأغلبية تفضل منهج حزب ما في العلاقات والشئون الخارجية بينما ترى أن حزبا آخر أفضل في سياسته الداخلية، أو لتحقيق توازن تعتبره ضروريا في لحظة معينة. وكثيرا ما يخدع الناخبون في مرشح للرئاسة فيظنونه صالحا وينتخبونه ثم يكتشفون أنه ليس على مستوى المسئولية. فبدلا من أن ينتظروا أربع سنوات كاملة حتى الموعد التالي للانتخابات الرئاسية، وهو ما لا خيار آخر لديهم في النظام الرئاسي، يمكنهم تصحيح الخطأ جزئيا على الأقل في الانتخابات البرلمانية إذا جاء موعدها مثلا في العام التالي لانتخابهم هذا الرئيس أو حتى بعد عامين. وفي هذه الحالة يمكن أن يرشح البرلمان رئيسا للحكومة يقوم بدور في الحد من الاختلالات التي قد تترتب على أداء رئيس للجمهورية أسئ اختياره. غير أن هذا النظام لا يضمن منع تركز السلطة بالمطلق أو في كل الأحوال، إذ يظل هذا الخطر قائما إذا جاء الرئيس والأغلبية البرلمانية من الحزب نفسه فيصبح الوضع في هذه الحالة أقرب إلى النظام الرئاسي أو ربما يكون رئاسيا من الناحية الفعلية، لأن رئيس الجمهورية يستطيع والحال هكذا التحكم في شئون البلاد وخصوصا إذا كان رئيس الحكومة ضعيفا. ومع ذلك يظل منع تركز السلطة هو الميزة الأولى الأساسية للنظام المختلط، باستثناء هذا السيناريو. فهو أفضل من النظام الرئاسي لأنه يقوم على توزيع السلطة التنفيذية بين رأسين. أما ميزته الثانية التي تجعله أفضل من النظام البرلماني فهي أنه أكثر تحقيقا للاستقرار السياسي من هذا النظام الذي يمكن أن يتوقف عن العمل فعليا في حالة عدم وجود حزب قادر على تحقيق أغلبية مطلقة (50 في المائة+1) وتعذر تشكيل ائتلافات متجانسة نسبيا وقابلة للاستمرار لفصل تشريعي كامل. ففي هذه الحالة تدخل الدولة في دوامة عدم استقرار وزاري نتيجة عدم صمود الحكومة الائتلافية وسقوطها بعد فترة قصيرة وصعوبة تشكيل أخرى قابلة لأن تستمر لفترة أطول، وهكذا. وفي هذه الحالة يكون رئيس الحكومة في مركز صعب ودقيق ومحكوم بتوازنات معقدة، الأمر الذي يفرض عليه إعطاء الأولوية للمحافظة على تماسك حكومته واستمرارها أكثر من أداء العمل المطلوب بالكيفية اللازمة. فالنظام المختلط لا يعاني هذه المشكلة المعتادة في كثير من حالات النظام البرلماني، أو قل إنه لا يواجهها إلا قليلا. ولذلك يبدو النظام المختلط هو الأكثر ملاءمة لظروف مصر في الفترة القادمة، وخصوصا إذا أقيم على أساس يرجح كفة الشق البرلماني فيه نسبيا غبر عدم إعطاء رئيس الجمهورية الحق في إقالة الحكومة أو حل البرلمان. فالمنطقي ألا يكون لسلطة الحق في تغيير ما لا تفعله. ومادام الرئيس ليس هو صاحب الكلمة الرئيسة في تشكيل الحكومة (بل البرلمان)، فلماذا يكون له الحق في إقالته؟ وإذا كان البرلمان لا يستطيع سحب الثقة من الرئيس المنتخب من الشعب بشكل مباشر، فلماذا يكون لهذا الرئيس سحب الثقة من المجلس أي حله ما دام منتخبا مثله من الشعب؟ والحال أن النظام المختلط قد يسمح بمثل هذا الدور للرئيس وقد لا يسمح وفقا للظروف. ففي روسيا وأوكرانيا يستطيع الرئيس إقالة الحكومة، ولكن النظام المختلط فيهما تشوبه تشوهات تجعل البلدين من أقل بلاد أوروبا ديمقراطية (بعد تعثر الثورة البرتقالية في أوكرانيا). أما في التطبيقات الأكثر ديمقراطية للنظام المختلط في أوروبا، فلا يستطيع رئيس إقالة الحكومة كما هي الحال في فرنسا والبرتغال على سبيل المثال. وبالرغم من أن الرئيس يملك الحق في هاتين الحالتين في حل البرلمان، ففي كل منهما تقاليد ديمقراطية تحول دون إساءة استخدامه هذا الحق بخلاف الحال في مصر التي تحمل على ظهرها ميراثا استبداديا هائلا تحتاج إلى سنوات طويلة لكي تضعه عن كاهلها. كما أن حالتي فرنسا والبرتغال هما من الحالات التي تعتبر كلاسيكية في تطبيق النظام المختلط، ولذلك صارتا قديمتين مقارنة بالديمقراطيات الجديدة التي أقيمت منذ نهاية ثمانينات القرن الماضي نتيجة الثورات ضد النظم الشمولية في شرق ووسط أوروبا وضد الحكم العسكري في أمريكا اللاتينية. فالنظام المختلط في هذا الجيل من الديمقراطيات أكثر ميلا إلى إعطاء البرلمان دورا أساسيا، ولذلك لا يستطيع الرئيس حله. ومن أشهر هذه الديمقراطيات الجديدة بلغاريا ورومانيا. وعموما، يظل النظام المختلط ذو النكهة البرلمانية، التي لا تتعارض مع وجود رئيس دولة يمتلك صلاحيات كبيرة ولكنها ليست مطلقة ولا شاملة السلطة التنفيذية كلها، هو الأقرب إلى ظروف بلادنا في المرحلة الراهنة. نقلا عن جريدة الأهرام