قدم أوباما قبل أيام استراتيجيته العسكرية محدداً دور وأولويات وأهداف أميركا المستقبلية خلال العقد القادم، مقرراً خفض عديد القوات الأميركية لتوفير حوالي نصف تريليون دولار من الميزانية العامة للدولة خلال السنوات العشر القادمة، وبذلك يؤكد، بطريقة ما، مقولة إن أميركا متراجعة ولم تعد كما كانت القوة المطلقة الوحيدة في نظام عالمي أحادي القطبية. وأن هناك حقائق استراتيجية على الأرض بحاجة للتعامل معها، وتفرض تغيير البوصلة لمواجهة الواقع الجديد، وسط عجز مالي هو الأكبر ودَين عام هو الأخطر، وتغير في طبيعة وموازين القوى، وصعود لمراكز قوى أخرى من الدول وغير الدول، وخاصة مع مخاوف انكماش أميركا وتغير أولوياتها التقليدية من حلفائها الأوروبيين إلى آسيا وشرقها، مع إبقاء أولوية واضحة في منطقة الخليج العربي. وهي المنطقة التي توليها أميركا أهمية كبيرة بحسب أوباما ووزير دفاعه الجديد "بانيتا" الذي زار المنطقة مؤخراً ليشرف على إنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق. لقد انشغلت أميركا منذ أحداث 11 سبتمبر بسبب التهديدات الإرهابية ل"القاعدة" وما روجت له إدارة بوش في فترتي ولايته بهذا الصدد، إلى درجة تضخيم دور التنظيم وخطره والغوص في مخاضات الحرب على الإرهاب العالمي، بل إن المبالغة والشطط دفعا بعض منظري المحافظين الجدد إلى النفخ في فزاعة الإرهاب إلى مستوى غير مسبوق جعلهم يتحدثون عما أطلقوا عليه "الحرب العالمية الرابعة". وهم من قادوا ووجهوا سياسة بوش، بما عرفته من حربي أفغانستان والعراق، إضافة إلى الحرب على الإرهاب. وقد أنهك كل ذلك أميركا وأظهر محدودية القدرات العسكرية عموماً في التعامل مع لاعبين من غير الدول كتنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان". والأهم من ذلك كله، كان البعد الاستراتيجي بدفع أميركا للتركيز بشكل أساسي على رقعة جغرافية محدودة وهي الدولة الأقوى والأكثر نفوذاً ومصالح وتمدداً وقواعد عسكرية وإنفاقاً على الأمن والدفاع في العالم. وفي هذا المقام سُجل اهتمام أميركا الاستراتيجي في المنطقة الممتدة من جبال باكستان إلى الخليج العربي بالدرجة الأولى، بسبب العراق وحربه، وإيران وحضورها في أكثر من ملف وخاصة ملفها النووي ودورها في إمداد الطاقة وأمن الخليج وملف العراق. وفي المقابل بسبب إسرائيل الحليف الاستراتيجي، وتحديات عملية السلام، تمدد الاهتمام الأميركي بشكل أكبر في شرق المتوسط، وبالتالي تم إغفال مناطق بالغة الأهمية وخاصة في آسيا وشرق آسيا على رغم وجود عمالقة كبار، وخاصة مع الصعود الصيني المذهل، ودور الهند كعملاق كبير آخر ومركز ارتكاز أساسي في آسيا، وطبعاً هناك أدوار اليابان، والنمور الآسيوية وفي مقدمتهم كوريا الجنوبية، والدول المشاغبة وعلى رأسها كوريا الشمالية النووية. لقد لجأ جميع الرؤساء الأميركيين، وخاصة من الحزب الجمهوري منذ الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية، إلى تخفيض موازنة وزارة الدفاع، وهذا ما نجده مثلاً في سجل إدارة إيزنهاور في الخمسينيات، ونيكسون عقب حرب فيتنام في السبعينيات، وريجان وبوش الأب بعد الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، فكل هؤلاء القادة الجمهوريين لجأوا إلى خفض نفقات الدفاع بسبب تراجع الخطر، أو للإنفاق على مشاريع داخلية مهمة. والراهن أن أوباما ليس مختلفاً عن هؤلاء الرؤساء الكبار في تقديمه لاستراتيجية أمنية ودفاعية جديدة يعيد فيها حسابات أميركا، ويقدم جيشاً أقل عدداً ب100 ألف عسكري مما يخفض عديد القوات المسلحة الأميركية من 1,5 مليون إلى 1,4 مليون عسكري. وسيقلص ذلك بالتالي ميزانية الدفاع في الميزانية السنوية لأميركا التي وصلت أصلاً إلى رقم فلكي العام الحالي يقدر ب 3,7 تريليون دولار. هذا في حين أن ميزانية وزارة الدفاع وحدها لعام 2012 هي 553 مليار دولار بزيادة حوالي 50% عن عام 1998. وعلى رغم التخفيض فإن أميركا، بهذا الرقم، ستنفق على الدفاع أكثر مما تنفقه الدول الكبرى العشر التي تليها مجتمعة. ويبدو أن معظم الخفض في الاستراتيجية الجديدة سيكون في قوات المشاة البرية والجيش وقوات مشاة البحرية "المارينز". والخفض في هذه القطاعات سيقلص وحده ميزانية الدفاع بنصف تريليون دولار خلال عقد من الزمن. ومن المنتظر أن يكون الاعتماد الأكبر في المستقبل على قوات سلاح الطيران، والطائرات بدون طيار، لمواجهة الميليشيات والمنظمات الإرهابية، كما تفعل أميركا منذ سنوات بوتيرة متصاعدة في مواجهة "القاعدة" و"طالبان" وخاصة في باكستانوأفغانستان واليمن، وهو منحى بدأ أصلاً في ظل إدارة بوش. وإذا أردنا التعبير باختصار عن الاتجاه العام للاستراتيجية الجديدة كما شرحها وزير الدفاع الأميركي، فإنها تقوم على قوات أقل عدداً، وأفضل تجهيزاً، وأكثر سرعة وحركية وقدرة على المناورة والقيام بمهام عديدة وسريعة بالاعتماد على التدخل المحدود والتعاون مع الشركاء والحلفاء ليقوموا هم من جانبهم بواجباتهم ومهامهم القتالية بدعم وإسناد أميركي. ولذلك تتضمن الخطة إعادة وضع الأولويات وسحب لواءين من القوات المسلحة من الألوية الأربعة المتمركزة في ألمانيا وإيطاليا، وخفض عدد القوات الأميركية في أوروبا عموماً من 277 ألفاً في عز فترة الحرب الباردة إلى حوالي 40 ألفاً مستقبلاً، لأن الخطة الجديدة ترى في آسيا وشرقها، ومنطقة الخليج العربي، منطقتي الأولوية الاستراتيجية بدلاً من أوروبا. وللتذكير فإن إحدى الظواهر السبع التي برزت في العام المنقضي، والتي تناولتها في مقال الأسبوع الماضي، كان "تراجع حضور ودور الولاياتالمتحدة على الساحة الدولية بسبب الأزمة المالية العالمية، والدين العام، ووعود أوباما التي قطعها كمرشح بالانسحاب من العراق والتركيز على الشأن الداخلي، وتفهم المزاج الانتخابي الذي يسيطر على المشهد السياسي الأميركي، وبالتالي فقد أوفى بوعده بالانسحاب من العراق وبدء خفض القوات في أفغانستان". ومن الواضح أن أوباما الذي سيخوض انتخابات رئاسية شرسة للبقاء لولاية ثانية وأخيرة في البيت الأبيض، ومن خلال تقديمه للرؤية الاستراتيجية العسكرية المستقبلية للولايات المتحدة، ومحاولته إحداث نقلة استراتيجية كبيرة في أولويات وأهداف ومناطق نفوذها في الخليج والصين وآسيا بالاعتماد على جيش أكثر فاعلية وأقل عدداً، إنما يريد أن يبرز كرئيس واثق من نفسه، وعلى تماس مع شعبه ومع المتغيرات الدولية، ويسعى في المقام الأول لخفض الأعباء العسكرية والالتزامات الخارجية عن كاهل بلاده، واستثمار مواردها في الداخل. والواقع أن تطبيق الاستراتيجية القتالية الجديدة سيغير عقيدة القتال والحرب الأميركية المستقبلية بشكل كبير، وذلك بالتحول من الاستراتيجية التي استندت لعقود على إنفاق كبير على التسلح وجيش قوامه قوات برية كبيرة قادرة على خوض حروب طويلة ومكلفة، وعلى خوض حربين في آن ومعاً في مسرحي عمليات مختلفين وحتى في قارتين، إلى العقيدة العسكرية الجديدة المرتكزة على خوض حرب قصيرة واحدة والانتصار في مسرح عمليات، واحتواء خصم في مسرح عمليات آخر. والحال أن هذه الخطة الجديدة المخفضة لعديد القوات المسلحة والميزانية العسكرية تؤكد، مرة أخرى، أن أميركا "ستقود من الخلف". وهذا يعني أن حروب أميركا في العراق وأفغانستان وعلى الإرهاب كانت هي آخر حروبها الكبرى. وأن حرب ليبيا ستكون مثالًا لدور وحروب أميركا القادمة. ومن ثم فإن أوباما، بالتالي، هو آخر أباطرة الامبراطورية الأميركية! نقلا عن صحيفة الاتحاد