نقلا عن : جريدة اخبار الخليج 23/7/07 تحتفل مصر والعالم العربي اليوم بالعيد الخامس والخمسين لثورة 23 يوليو وهي الثورة التي أطلق عليها في البداية «الحركة المباركة«، ونظراً لضخامة إنجازاتها عبر مسيرتها الوطنية التي فاقت نصف قرن من الزمان، فقد أحاطت بعملية تقييم إنجازاتها اختلافات عديدة، وعلى الرغم من تعدد هذه الاختلافات فإنها لم تنعكس على الاعتراف بأنها كانت ولاتزال ثورة رائدة، بل ملهمة لغيرها من الثورات في آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية. كما أن هذه الاختلافات حول تقييم إنجازات الثورة وتوجهاتها لم تنعكس على هويتها العربية من ناحية، ولا على التزاماتها العربية عبر مسيرتها الوطنية من ناحية أخرى.. فقد حدد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر قائد الثورة ومفجرها أولويات مصر في مؤلفه «فلسفة الثورة« عام 1954، في ثلاث دوائر متداخلة متحدة المركز وهى الدائرة العربية، وتليها الدائرة الإفريقية، وأخيراً الدائرة الإسلامية ليعكس بذلك عدة حقائق تاريخية، وجغرافية، وحضارية، واستراتيجية صلبة فرضتها ثوابت الجغرافيا، ومتغيرات التاريخ لتعبر عن مصالح حيوية ومصيرية مشتركة لطرفي المعادلة: مصر من جانب والعالم العربي من جانب آخر. فانتماء مصر التاريخي والجغرافي والحضاري للأمة العربية على امتداد الوطن العربي من الخليج إلى المحيط أول الثوابت في هوية الإنسان المصري، ومقومات وجوده منذ فجر التاريخ، مما دفع الراحل الدكتور جمال حمدان الى أن يؤكد أنه إذا كانت مصر فرعونية الجد - كما يحلو للبعض أن يؤكد - فهي بكل تأكيد عربية الأب، وكل من الجد والأب - كما تؤكد شواهد الآثار المصرية الباقية إلى اليوم، وكذلك روايات التاريخ - ينتميان إلى أصل عربي مشترك، ومن هنا كان تأكيد ثورة 23 يوليو أن مصر عربية الجذور والقومية والخصائص.. فقد أخذت هوية الإنسان المصري في التبلور والوضوح حين عرف عروبته وأصالته فيها، وأن أجداده الذين شيدوا منذ آلاف السنين أول حضارة إنسانية متكاملة بعناصرها المادية ومعتقداتها الثقافية على أرض وادي النيل - وهي الحضارة التي مازالت تبهر العالم حتى الآن - هم عرب وفدوا من الجزيرة العربية منذ آلاف السنين، على صورة موجات بشرية متتالية كفلت لمصر ومعها أرض الوطن العربي دماء عربية نقية ذكية منذ أقدم العصور، ترجع إلى عام 5291 قبل الميلاد. وقد دعم تلك الروابط التاريخية البشرية صلة النسب التي قامت بين مصر وكل من نبي الله وخليله سيدنا إبراهيم أبي الأنبياء عليه السلام، وكذلك الرسول الكريم محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، فلقد تزوج إبراهيم الخليل بالسيدة هاجر المصرية وهي إحدى بنات سيناء من قرية صغيرة يشهد اسمها على عروبة مصر منذ تلك المرحلة المبكرة من التاريخ ألا وهي قرية - أم العرب - الواقعة إلى الشرق من مدينة بورسعيد، وتدعمت هذه الصلة من النسب بين المصريين والأرومة الأولى للعروبة عندما أنجب الرسول الكريم محمد بن عبدالله - صلى الله عليه وسلم - ولده إبراهيم من السيدة «ماريا« القبطية وهي إحدى بنات مصر من قرية «حفن« بالمنيا. -2- وغدت مصر منذ فجر الإسلام وثيقة الارتباط بنبع العروبة، ليس من ناحية النسب فحسب، بل من ناحية العقيدة واللغة كذلك، فيروى عن الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - حديثه الشريف «إذا فتحتم مصر فاستوصوا بأهلها خيراً، فإن لكم فيها نسباً وصهراً«، وقد حقق الفتح الإسلامي لمصر وصية الرسول الكريم، حيث وجدت مصر في الوافدين إليها من العرب المسلمين دماء جديدة توجتها العروبة الصريحة ليس في النسب من حيث عروبة الوجه واليد فحسب، بل كذلك عروبة اللسان، والمصالح والانضمام للأسرة العربية التي اتسع وطنها مع امتداد الإسلام من الخليج إلى المحيط. ومنذ تلك اللحظة تقاسمت مصر حلو الحياة ومرها مع الأمة العربية حتى غدت «درع العروبة« حين خرجت الأساطيل المصرية تدافع عن القاعدة الأولى للعروبة وعن «الأمن العربي« في كل من الشام والعراق وبلاد العرب خلال حكم الخلفاء الراشدين ضد الروم البيزنطيين وضد أعداء الوطن، وتبلورت هذه الرسالة في العصر الحديث حينما دعت مصر الأمة العربية إلى صحوة تقف فيها على حقيقة مقوماتها وخصائصها ضد عدوان العثمانيين والأوروبيين على السواء. وحملت مصر منذ القرن التاسع عشر عبء البعث العربي الذي أخذ يعيد الحياة إلى سائر أرجاء الوطن العربي وبعد أن كانت درع العروبة أضحت قلب العروبة النابض في العصر الحديث، ولم تنصرف عن رسالتها العربية وهي تناضل من أجل طرد الاحتلال البريطاني، فكانت مساندتها للبلاد العربية ضد الاستعمار الأوروبي ممثلاً في الغزو الإيطالي لليبيا عام 1911، ومساندة الشعب الفلسطيني ضد وعد بلفور عام 1917، ودعم الثورة الفلسطينية عام 1936، وهو الدور الذي جسدته ثورة يوليو 1952 بحق حينما أخذت على عاتقها تحرير ودعم استقلال الوطن العربي، وليس ما قامت به مصر في تحقيق استقلال ليبيا والسودان وتونس والجزائر والمغرب والصومال وموريتانيا والكويت وقطر والإمارات وعمان وجيبوتي إلا أبرز الأمثلة. وقد تأكد الدور المصري الداعم للقومية العربية والداعم للأمن العربي من جديد خلال حرب الخليج الأولى ثم حرب الخليج الثانية، والمشاركة في حرب تحرير الكويت والموقف المؤيد لوحدة العراق إقليميا وعضويا، وأن يقرر مصيره بنفسه، وكذا الموقف من الأزمة السودانية والقائم على وحدة الأراضي السودانية. وفي المقابل كانت الأمة العربية من الخليج إلى المحيط بمثابة الجسد لهذا القلب النابض، فالعلاقات بين الدول والشعوب العربية لم تكن ولن تكون أحادية الاتجاه، ولكن غاية ما في الأمر أن الدور المصري قد يبرز خلال مرحلة معينة من التاريخ مثل مرحلة تحقيق استقلال الدول العربية، في حين يبرز الدور العربي المساند لمصر في مرحلة أخرى مثلما حدث خلال حرب أكتوبر .1973 ومن ثم فإن الدعاوى التي تثار من آن لآخر لجذب مصر إلى إقليمية فرعونية أو إلى وحدة متوسطية، أو شرق أوسطية أو أفرو آسيوية، لا يمكن أن تكون في جميع الحالات بديلاً للهوية الأساسية لمصر وهي الهوية العربية التي اتخذتها ثورة يوليو 1952 نواة لتحركها السياسي، وهو ما يفسر أخذ مصر بزمام المبادرة في جميع القضايا الحيوية والمصيرية لتحقيق الأمن القومي العربي. -3- إن استعراض الدور العربي لثورة 23 يوليو، ودورها في تنشيط العمل العربي المشترك، وتحرير الاقتصاد العربي وإبراز وتأكيد الشخصية العربية على الصعيدين القومي والدولي ودورها في المواجهة العربية الإسرائيلية، ومبادرة السلام التاريخية، وحل القضية الفلسطينية وصولاً إلى قيام دولة فلسطينية وتصفية الخلافات العربية، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن هذا الدور يستند إلى التمسك بعدة حقائق ثابتة يمكن إجمالها فيما يلي: 1- أن الدور الرائد لثورة يوليو في الحرب والسلام لم يكن نتيجة رغبة مصر في فرض الزعامة، بل أملته حتمية تنبع من وضع مصر الجيوبولتيكي والحضاري والتاريخي والبشري وهو الدور الذي تعزز بالفعل بقبول عربي وارتياح لهذا الدور. 2- أن الدول العربية استطاعت بمساندة ثورة يوليو أن تحافظ على هويتها وشخصيتها المستقلة وأن تقود غمار التنمية في محاولات الغزو العسكري والفكري والثقافي ووسط تيارات كانت تهب من الشرق والغرب على السواء. 3- أن أي خلافات مصرية عربية لم تكن سوى مرحلة عابرة في تاريخ علاقات ثورة يوليو العربية، وتمت تسويتها وبطرق سلمية وفي إطار عربي بفضل التشاور المستمر مع الدول العربية لتأكيد الفهم المشترك لأبعاد كل المشاكل والقضايا والاتفاق على سُبل حلها. 4- استناد ثورة يوليو إلى الشرعية الدولية والالتزام بسيادة القانون واحترام المواثيق والاتفاقيات الموقعة. 5- التمسك بالعمل على حل المنازعات بالطرق السلمية مثل التفاوض والتوفيق والتحكيم، وتأكيد أن القوات المسلحة المصرية تستهدف الحماية وليس الإغارة والعدوان. 6- التمسك بالحقوق العربية وتأييدها أمام المحافل الدولية والمنظمات الإقليمية وتأكيد أهمية العمل الدبلوماسي وتجنب اللجوء إلى استخدام القوة إلا عند الضرورة القصوى التي لا مناص منها. 7- تطبيق معاهدة الدفاع العربي المشترك بكل دقة وفقاً لأحكامها في الظروف والأحوال التي تقتضي ذلك صوناً للأمن القومي العربي. 8- الاستثمار الأمثل للإمكانات الضخمة المتوافرة للدول العربية التي جعلت من هذه الدول القوة العالمية السادسة بعد حرب أكتوبر 1973، وذلك لمواجهة الأزمات والمشكلات بروح من التعاون والإخاء إيماناً بوحدة المصير. 9- العمل على إقامة السوق العربية المشتركة لتحقيق أقصى استفادة ممكنة من الإمكانيات الاقتصادية العربية في عالم يموج بالتكتلات الاقتصادية العملاقة. إننا جميعاً - أبناء الوطن العربي من الخليج إلى المحيط - إن جاز لنا أن نطلق وصفاً على ثورة يوليو ونحن نحتفل بعيدها الخامس والخمسين، وإن جاز لنا أن نختزلها في كلمة واحدة فمن المؤكد أننا لن نقول سوى ثورة يوليو «العربية«، فهي عربية المنبع وعربية المصب وعربية المسار، فتحية لكل من شارك فيها ولكل من قاد مسيرتها، ولكل من استظل بظلها وتحية لكل مؤمن بالمصير العربي الواحد في عالم جديد يعاد بناؤه على أسس جديدة تحتاج منا جميعا الى النظر صوب المستقبل وإدراك أبعاد المتغيرات للتعرف على سُبل التعامل معها.