لم يختلف المصريون علي شيء كما اختلفوا علي ثورة يوليو.. وطوال نصف قرن من الزمان كان هناك فريق يدافع عنها بضراوة ولا يقبل المساس بها وفريق آخر استباحها تاريخا واحداثا واشخاصا ولا شك أن الخلاف حول الاشياء يعكس مدي أهميتها وتأثيرها ولا يستطيع أحد أن ينكر ما تركته ثورة يوليو في تاريخ المنطقة كلها وليس مصر وحدها.. كان للثورة دورها المؤثر في كل مراحل الصراع بين القوي المختلفة في المنطقة وامتد تأثيرها إلي آسيا وافريقيا وأمريكا اللاتينية، من الظلم أن نقول إن ثورة يوليو كانت حدثا مصريا أو عربيا ولكنها تحول تاريخي بكل المقاييس، لقد غيرت وجه العالم فقد جاءت في لحظة تاريخية قاطعة.. كانت الامبراطورية الانجليزية تستعد للرحيل وكانت فرنسا تودع مستعمراتها وكانت هناك قوي اخري صاعدة بعد انتصار امريكا في الحرب العالمية وظهور الحركة الشيوعية ممثلة في الاتحاد السوفيتي ثم جاءت ثورة يوليو لتقود قوي التحرر في العالم وتضع أسسا جديدة لمنظومة دول عدم الانحياز في ثلاث شخصيات تاريخية عبدالناصر وتيتو ونهرو. وفي تقديري ان الانجاز الأكبر لثورة يوليو كان دورها في حركات التحرر التي شهدتها دول آسيا وافريقيا والدول العربية، والواضح أن الخلاف حول هذا الدور بقي محدودا للغاية، ولهذا فإن الخلاف الحقيقي حول ثورة يوليو يقع في احداثها ومنجزاتها وانكساراتها الداخلية.. هناك من يري أن استيلاء الدولة علي الاقتصاد المصري كان طريقا واسعا للفساد الإداري وانتشار البيروقراطية.. وهناك من يري أن تفتيت الأراضي الزراعية في ظل قوانين الاصلاح الزراعي كان طريقا خاطئا وهناك من يري أن تصفية الطبقة الوسطي كانت خسارة كبيرة للنخبة التي تهمشت وفقدت دورها وهناك أيضا من يري أن ثورة يوليو فتحت أبواب المستقبل أمام طبقات جديدة من العمال والفلاحين والفقراء وانها دفعت بهؤلاء إلي مقدمة الصفوف، هذا بجانب حق التعليم والعلاج وبناء إنسان جديد.. ولا ينكر أحد دور ثورة يوليو في تشييد منظومة عربية تدعو لحشد امكانيات هذه الامة نحو مستقبل أفضل.. صحيح أن الاحلام لم تتحقق ولكن يكفي أن الثورة فتحت طريق الاحلام أمام شعوب طاردها اليأس زمانا طويلا.