تمثل حكومة الائتلاف الوطني التي بدأت المفاوضات لتشكيلها عقب الانتخابات التونسية الناجحة التي أجريت الأسبوع الماضي تحالفا بين قوى إسلامية وليبرالية ويسارية نشأ مثله في مصر ولكن قبل الانتخابات التي ستبدأ في 28 نوفمبر المقبل. فقد أثبتت التجربة التونسية سلامة فكرة التحالف بين قوى واتجاهات تعبر عن الأطياف السياسية والفكرية المختلفة أو عن قوى أساسية تمثلها. وربما يكون هذا هو الأمر الوحيد الذي سبقت مصر فيه تونس منذ أن بدأ الربيع العربي. فقد أسست أحزاب مصرية تحالفا ديمقراطيا يضم قوى إسلامية وليبرالية وناصرية وغيرها انطلاقا من فكرة أن أيا من هذه القوى لا يستطيع حمل التركة الثقيلة الموروثة عن النظام السابق، وأن إعادة بناء مصر تقتضي تعاونا بينها. وحافظ هذا التحالف على جوهر فكرته وقوامه الأساسي وتعبيره عن التنوع المصري بالرغم من الصعوبات الهائلة التي واجهت وضع قوائمه الانتخابية وانسحاب بعض الأحزاب منه. وظل التحالف الديمقراطي معبرا عن وجه مصر بشكل عام بالرغم من تفاوت الأوزان النسبية في داخله نتيجة ثقل وزن حزب الحرية والعدالة. ولكن هذا هو الواقع الذي لا يمنع بناء تحالف يشارك أطرافه في حمل مسئولية إعادة بناء بلد في حالة خراب، مثلما لم يحل تفاوت أوزان الأحزاب التونسية دون اتجاهها إلى إقامة مثل هذا التحالف ولكن بعد الانتخابات وليس قبلها. وتزداد أهمية التحالف عندما لا يصل تفاوت الأوزان النسبية إلى الحد الذي يتيح لأحد الأطراف الحصول على الأغلبية المطلقة (50%+1) منفردا، بالرغم من أن الحاجة إلى هذا التحالف تظل قائمة حتى إذا كان هذا ممكنا. وستقدم تونس، في حالة نجاح المفاوضات الائتلافية، نموذجا لتحالف يقوده حزب إسلامي (النهضة) حصل على نحو 40 في المائة من مقاعد المجلس الوطني التأسيسي، ويضم أحزابا أخرى قد يكون أهمها حزبا ليبراليا (المؤتمر من أجل الجمهورية) يقوده أحد أبرز رواد حركة حقوق الإنسان العربية، وآخر يمكن تصنيفه في مساحة يسار الوسط وهو التكتل من أجل العمل والحريات. ويهدف هذا التحالف الذي سيشكل حكومة ائتلافية إلى بناء تونس جديدة، وليس فقط جمهورية ثانية. فلم يكن للجمهورية الأولى من اسمها نصيب إلا في فترة الحبيب بورقيبة الأولى، قبل أن يتم تغييب الإرادة الشعبية تدريجيا واختزال الدولة في نظام مستبد لم تمض سنوات قليلة حتى صار حكما فرديا يعتمد على جهاز أمن متجبر. وقد حدث مثل ذلك بشكل أو بآخر في مصر. فالتشابه إذن كبير بين ما حدث في البلدين خلال نصف القرن الأخير، كما هي الحال منذ أن سبق البلدان غيرهما من بلاد العرب إلى العصر الحديث في بداية القرن التاسع عشر. فقد حكم نظاما مبارك وبن علي مصر وتونس كما لو أنهما أرض بلا شعب، فعاثا في البلدين فسادا واستأثرا بمواردهما. وهذا هو ما يجعل المقارنة ضرورية بين التحالف الديمقراطي الذي نشأ في مصر قبل انتخاباتها المنتظرة والائتلاف (الديمقراطي أيضا) الجاري تشكيله في تونس الآن بعد أن تأخر كثيرا. ولكن أن يأتي هذا الائتلاف متأخرا لهو خير من ألا يوجد في لحظة لا سبيل غيره إلى بناء تونسالجديدة. فما يجمع الأحزاب التي حصلت على المراكز المتقدمة في الانتخابات الأخيرة، على تفاوت حظوظها من مقاعد المجلس الوطني التأسيسي، هو سعيها لأن تكون تونس الخضراء اسما على مسمى عبر نشر الحرية والعدالة في ربوعها. كما يجمعها أنها بنت حملاتها الانتخابية على هذا الأساس، إذ سعى كل منها إلى تقديم رؤيته لكيفية بناء تونسالجديدة، أكثر مما حاول تشويه غيره أو كيل الاتهامات له. فلم ينشغل حزبا المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات بشن حرب ضد الإسلاميين بخلاف حزب ليبرالي آخر (الديمقراطي التقدمي) كانت التوقعات ترشحه لتحقيق نتيجة كبيرة واحتلال المرتبة الثانية في المجلس المنتخب. غير أنه تفرغ لمواجهة الإسلاميين وبدد وقت وجهد مرشحيه وكوادره في الإساءة إليهم، فعاقبه الناخبون وأسقطوه وجعلوه عبرة لمن يعتبر. وبالرغم من أن قيادة الحزب، الذي كان يعتبر أكبر الأحزاب الليبرالية، احترمت إرادة الناخب إلا أنها لم تستوعب الدرس فيما يبدو حتى الآن. فقد فسرت هزيمته الثقيلة بأن التصويت كان على الهوية وليس على البرامج. وهذا صحيح، ولكن بالنسبة إلى هذا الحزب تحديدا لأنه هو الذي سعى إلى ذلك وحاول أن يجعل الانتخابات اقتراعا على علمانية تونس وليس على سبيل إعادة بناءها على أسس ديمقراطية حرة وعادلة. وهذا درس يصح أن يستوعبه الليبراليون الذين يتبنون مثل هذا التوجه في مصر و بلاد الربيع العربي الأخرى. ولكي يتمكنوا من ذلك، ليتهم يتأملون تعليق صحيفة نيويورك تايمز على نتائج الانتخابات التونسية. فقد استنتجت أن الناخبين عاقبوا الأحزاب العلمانية التي تفتعل الصدام مع الدين، وأنهم اقترعوا من أجل التغيير وليس من أجل الدين أو العقيدة، وأن هذا يمثل درسا للعلمانيين في المنطقة. غير أن هذا درس عام وليس مقصورا على اتجاه واحد، فلم ينجح حزب النهضة في تحقيق النتيجة الكبيرة التي حصدها إلا لأنه خاض معركة انتخابية من أجل تونس ومستقبلها وعلى أساس برنامج للعمل والبناء. وكانت معركته في قلب السياسة وليس على الهوية. ولعل التحدي الأول الذي يواجه حزب النهضة في الفترة المقبلة هو أن يحافظ على هذا التوجه وأن يضع حدا لحماس بعض شبابه وتشدد بعض أعضائه وأن يصمد في مواجهة المزايدين عليه إسلاميا من خارجه. نقلا عن جريدة الأهرام