تحتل مسألة "الاستيطان" (الاستعمار) الآن الأجندة المحلية والإقليمية بعد مقارفات متصاعدة كان آخرها عملية حرق هؤلاء المستعمرين للمسجد الخامس في فلسطين، في فلسطين 1948 هذه المرة. كما تحتل "المسألة" ذاتها الأجندة الدولية المتعلقة بمجمل عملية التسوية في الشرق الأوسط. فالفلسطينيون، رغم تقديمهم طلب العضوية الكاملة للأمم المتحدة، ما زالوا يربطون استئناف المفاوضات مع إسرائيل بوقف كامل لأنشطتها "الاستيطانية" في الضفة الغربية، في حين تتحجج إسرائيل بأن هذه "المسألة" مرتبطة بالمرحلة الأخيرة من المفاوضات، وأن أنشطتها الاستعمارية محصورة في توسيع "المستوطنات" لأغراض التوسع الطبيعي، كما في منطقة القدس. ومؤخراً، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي (نتنياهو)، وببجاحة واضحة، أنه لا ينوي إعلان "تجميد جديد للاستيطان في الضفة والقدسالشرقية لإقناع الفلسطينيين بتحريك المفاوضات"! آخر المخططات التوسعية "الاستيطانية" تجلى في مصادقة "اللجنة اللوائية للتخطيط والبناء الإسرائيلية" على طرح مخطط لبناء 1100 بؤرة "استيطانية" في مستعمرة "جيلو" بالقدسالشرقية. ومن المؤكد أن إسرائيل ماضية في محاولات عزل القدس عن محيطها الجغرافي في الضفة، عبر البناء "الاستيطاني" وجدار الفصل العنصري. لكن الملاحظ أن "دولة المستوطنين" (التي باتت قريبة من التحول عملياً إلى دولة قبل الدولة الفلسطينية) في طريقها لتجاوز عباءة "الدولة الإسرائيلية". فمع "مجابهة" المستعمرين لنتنياهو وحكومته، وتكوينهم ميليشيا وخلايا مسلحة تهاجم أراضي الفلسطينيين وتقطع أشجارهم وتجرف أراضيهم وتحرقها، قاموا بإعادة المنشآت التي تفككها شرطة الاحتلال في "المستوطنات العشوائية"، واستحدثوا بؤراً "استيطانية"، سواء برضا سلطات الاحتلال أو رغماً عنها. ولقد اعترف جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) بعجزه وبتغاضيه عن قتل "المستوطنين" العشرات من الفلسطينيين وتدمير ممتلكاتهم في الضفة، مطالباً بتدخل المستوى السياسي الإسرائيلي لكبح جماحهم بعد أن تمادوا واصبحوا يدعون إلى قتل الفلسطينيين جهاراً. بل إن "الشاباك" دعا وزارة التربية والتعليم إلى الوقف الفوري للمخصصات المالية التي تقدمها الوزارة للمدرسة الدينية (عود يوسف حاي) التي يقوم حاخامات كبار فيها بالتحريض على قتل العرب والاعتداء عليهم. وحسب صحيفة "هآرتس"، فإن هذه المدرسة الدينية، الموجودة في مستعمرة "يستهار" المقامة على الأراضي الفلسطينية في نابلس، تضم عدداً من المدارس العليا والمتوسطة التي تعلّم العنصرية والتحريض ضد كل ما هو غير يهودي. يبدو أن التلميذ في إسرائيل بات يتطاول على أستاذه! فالمستوطنون المستعمرون تحولوا إلى عصابات لها سلطة مستقلة عن سلطة دولة إسرائيل ولها وسائل تطبيق لسلطتها مستقلة عن الجيش والشرطة الإسرائيليين. فهذا "هيلل فايس"، وهو أستاذ في جامعة "بار إيلان" يدعو لإنشاء "السلطة اليهودية" (الموازية للسلطة الفلسطينية)، وهدفها أن تحل محل سيادة دولة إسرائيل "التي تتنكر لمصدر سلطتها باعتبارها دولة يهودية من أجل اليهود وتختار أن تعبد أعداء الشعب اليهودي"! وبحسب نشرات "مقر العمل لإنقاذ الشعب والبلاد"، فقد شارك مئات من ممثلي المستوطنات في المؤتمر التأسيسي للسلطة اليهودية" الذي عُقد في مستوطنة "نوفيم". بل جاءت لهؤلاء رسائل تأييد كرسالة "فيليب دي فنتر" زعيم اليمين المتطرف الفنلندي، و"باتريك برنكمان" صاحب الملايين السويدي. وفي المؤتمر، مُنحت جائزة مقدارها عشرون ألف شيكل لعائلة الجندي "عيدان هيرشليكوفيتس" الذي رفض الأوامر الإسرائيلية بإخلاء "المستوطنة العشوائية" (رمات ميغرون). ويقول "تسفي برئيل" في مقال بعنوان "دولة (شارة ثمن)" (استناداً إلى الإشارات التي يتركها المستوطنون بعد الاعتداء على الفلسطينيين وممتلكاتهم مقابل كل عملية إخلاء للبؤر الاستيطانية العشوائية في الضفة الغربية)، يقول: "لم يعد يوجد شك في أن (يشع) أصبحت هنا. فعصابات (شارة ثمن) لا تكتفي بالمحمية التي خُصصت لها في الضفة حيث تستطيع هناك اقتلاع الأشجار وإفساد سيارات الجيش الإسرائيلي وإحراق المساجد. فهي مثل كل منظمة إرهابية لديها (بنك أهداف) لا يعرف حدوداً. ولن يكون من المبالغ فيه تخمين أن قوائمها مقسومة بين من يستحق فقط رش أبواب بيته بالأصباغ وبين من يجب أن يقتل". ويضيف: "لكنه سيكون خطأ مأساوياً أن يُنظر إلى هذه العصابات باعتبارها منظمة إرهابية فقط سيؤدي عمل مكثف إلى القضاء عليها. إن إسرائيل التي خبرت محاربة الإرهاب، أوجدت تعبير (البنية التحتية للإرهاب) -الذي يُفرق بين منفذي الإرهاب بالفعل وبين مُرسليهم، بين (الذراع العسكرية) والبنية التحتية السياسية والثقافية التي تغذيها. وفي المحمية اليهودية كأن (البنية التحتية للإرهاب) غير موجودة! فلا يوجد إلقاء مسؤولية على مجلس (يشع)، ويغسل رجال الدين أيديهم من الأمر، ويحل النفاق محل تحمل المسؤولية وتطهير الصفوف. لكن تلك البنية التحتية موجودة. فقد نشأت في الضفة سلطة يهودية هدفها أن تحل محل سيادة الدولة وربما محل سلطة الجيش الإسرائيلي بعد ذلك. وليس هذا مجلس (يشع) المستكين للسلطة، بل هو كائن مسخ جديد سيمنح رعايته لمنظماته الإرهابية". "المستوطنون" ليسوا حزباً يعمل بحسب قانون الدولة، بل "جماعة" تشبه عصابة تتحول إلى مصدر سلطة "سيادية"، مما قد يحولها في قادم الأيام إلى أداة تطبق "القانون"، وغير خاضعة للدولة الصهيونية، مثل الجيش الإسرائيلي أو شرطة إسرائيل. وهذه "الجماعة" تنشئ لنفسها أجهزتها التنفيذية التي أصبحت نواة جاهزة مُعدة لتحقيق أهدافها. من هنا تكونت عصابات ما بات يسمى "دفع الثمن"، التي قالت فيها المقالة الافتتاحية لصحيفة "هآرتس" إنه "لتعريف نشاط ما وصفه عملاً (إرهابياً) لا يوجد فقط معنى لفظي. فهو يستدعي موقفاً عملياتياً، وذلك لأن وظيفة (الشاباك) -خلافاً للشرطة- هي منع الجنايات الأمنية وليس فقط التحقيق فيها بعد ارتكابها والقبض على المسؤولين عنها! ففي نشاط عصابات الإرهاب اليهودي يشارك، كما هو معروف، عشرات الشباب الذين يستعينون بإطار يضم مئات غير قليلة. وتعنى المخابرات منذ سنين بتشخيص ورسم خريطة هذه الشبكات. لو كان الحديث يدور عن فلسطينيين، لكانوا كلهم، منذ الآن، أو على الأقل نواتهم الداخلية والعنيفة، قيد الاعتقال انتظاراً للمحاكمة أو قيد الاعتقال الإداري. لكن المشكلة أن الميل الرسمي لرؤية عصابات (شارة ثمن) مصدر قلق من تهديد حقيقي أكثر مما هي مجرد ميل يجب تغييره"! نقلا عن جريدة الاتحاد الاماراتية