التاريخ العربي في المجتمعات الحضارية العريقة التي نكبت بانقلابات عسكرية رفعت شعارات قومية ثورية عبر نصف قرن، ما هو إلا تاريخ لنصف قرن من الطغيان والقهر والفساد وانتهاك الكرامات وهدر الثروات، نصف قرن من الفشل وضياع الأهداف والآمال والأحلام، جاءت هذه الانقلابات العسكرية بدءاً بسوريا (1949) ثم مصر (1952) وتلتها العراق والسودان (1958) فاليمن التي كانت سعيدة (1962) وانتهت بليبيا (1969). جاء الثوار الشباب الوطنيون المتشبعون بالفكر القومي، تملؤهم الحماسة ولا ينقصهم الإخلاص ووعدوا شعوبهم وعوداً قطعوها على أنفسهم وتعهدوا بتحقيقها، وعدوهم بتحرير فلسطين عبر تكوين جيش وطني قوي، وقد كانت فلسطين هي المبرر لقيامهم بالانقلاب على حكومات مدنية منتخبة وأنظمة سياسية مستقرة اتهموها بالتخاذل والخيانة كذريعة لانقلابهم، لكن فلسطين لم تتحرر وجيوشهم الوطنية القوية هزمت شر هزيمة عام 1967، ولا زال العرب يدفعون ثمنها ويحاولون معالجة تداعياتها ويسعون إلى استعادة أوضاع ما قبل الهزيمة. وعد الثوار القوميون شعوبهم بالوحدة العربية سبيلاً للنهوض بالعرب وتجاوزاً لأوضاع التخلف، وإقامة قوة إقليمية ترهب الأعداء، ودرّسونا (نحن جيل الفشل في المدارس) الإيمان بالوحدة العربية؛ فتاريخنا واحد، ولغتنا واحدة، وثقافتنا واحدة، ومصالحنا واحدة، ومصائبنا واحدة، وأحلامنا واحدة... فلماذا لا يكون الوطن العربي دولة واحدةً؟ لعنّا الاستعمار الذي رسم الحدود القُطرية ليفرقنا ويضعفنا وليستولي على ثرواتنا ويتحكم في مقدراتنا! علمونا أن الوحدة العربية هي الطريق الطبيعي لتحرير فلسطين من براثن العدو المغتصب، صدقنا وآمنا بهذه المقولات التي كان أساتذتنا يلقنونها لنا نحن الصغار، فنخرج في مظاهرات عارمة هاتفين مؤيدين للوحدة العربية صارخين بأعلى حناجرنا: بالروح، بالدم نفديك يا فلسطين! و"من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، لبيك يا ناصر"، باعتباره حامل لواء الوحدة وزعيم العرب. لكن مشروع الوحدة انتهى بمأساة أليمة وجروح عميقة في النفسية العربية، لا زال العرب حتى يومنا هذا يداوونها، ومعها عمق الانقسام العربي ومكنونات ثقافة الكراهية المختزنة في الأرض العربية! وعد الثوار العرب بني جلدتهم بتحقيق العدالة الاجتماعية، وعاش العرب عقداً من الزمن يتغنون بالاشتراكية العربية وراحوا ينقبون في نصوص القرآن الكريم والسنة المطهرة وأدبيات التراث، عما يدعمها ويؤصلها دينياً، وانبرى علماء ومشايخ لوضع مؤلفات في تأييدها والدعوة إليها، لكن الخيبة لحقتها كما لحقت سائر وعود الانقلابيين الثوريين، فالاشتراكية المزعومة أدت إلى فشل كافة خطط التنمية العربية وهروب رؤوس الأموال وانتشار الفساد وظهور طبقة مستغلة. أما وعود الثوار بإقامة حياة ديمقراطية سليمة، فقد عملوا على نقيضها تماماً، إذ لم تشهد المنطقة العربية خلال نصف قرن من الأنظمة الثورية القومية، بنسختيها الناصرية والبعثية، حكماً استبدادياً كذلك الذي داس الكرامات وصادر الحريات وأذاق مجتمعاته الويلات، وزرع الخراب وانتهك كل المقدسات، وسلط زبانية زوار الفجر الذين كانوا يهبطون على الضحية فجراً ويأخذونه وراء الشمس، فلا يعرف أهله أهو حي ترجى عودته أم ميت توزع تركته؟! مارسوا أشد وأبشع أنواع التعذيب ضد كل من قال كلمة حق في وجه سلطة ظالمة، في أقبية السجون وسراديبها، آلاف من المواطنين الأحرار قضوا في سجون النظامين الناصري والبعثي من شدة التعذيب! فلا عجب أن تفرز هذه الأوضاع الشديدة الطغيان والقهر ظواهر التطرف والإرهاب والعصبيات القبلية والمذهبية والطائفية. تعرض الإنسان العربي لضغوط هائلة عبر نصف قرن فتحول إلى إنسان طائفي متعصب أو إرهابي متطرف، لا يبالي بحياة الآخرين الأبرياء، يفجر نفسه في مسجد أو عزاء أو مطعم مكدس بعمال كادحين! كثيرون سألوا: لماذا ظهر عندنا بن لادن والظواهري والزرقاوي في جانب التطرف الديني، وصدام والقذافي في جانب الاستبداد السياسي؟ إنه إفراز طبيعي لنصف قرن من الطغيان والأوضاع المحبطة! لقد وقعت المجتمعات العربية محاصرة بين كماشتي الاستبداد والإرهاب، إلى أن جاءت ثورات الربيع العربي لتعلن رفضها وتثور على هذه الأوضاع المحبطة، استعادةً للكرامة الضائعة والعدالة المغيبة والحريات المصادرة والثروات المهدرة. واليوم وقد أعلنت الجماهير الثائرة في مجتمعات الربيع العربي كلمتها في إرادة التغيير، فإن الآمال كبيرة في أن تفيد من التجارب السابقة الفاشلة وذلك بأن تحذر من تكرارها وألا تستمع إلى من يريد دغدغة عواطفها عبر شعارات جديدة تزيف وعيها وتدفعها إلى مسلكيات خاطئة تستنسخ أوهام الماضي الثوري الفاشل. يجب على جماهير الربيع العربي أن تكون أكثر وعياً أمام من يستصرخها للإضرار بمصالحها الدولية عبر ركوب الرأس ومناطحة القوى الكبرى. العلاقات الدولية يجب أن تكون بمنأى عن مشاهد الكراهية، هناك توازنات ومصالح يجب أن تصان، جماهير الربيع العربي عليها أن تكون أوسع أفقاً من أن يكون مفهومها للتغيير مجرد تغيير أشخاص بأشخاص ونظام بنظام، وأن تصبح أرحب صدراً من أن تحصر ثورتها في الانتقام من الأشخاص. إن التغيير الحقيقي المنشود والمأمول من ثورات الربيع العربي هو الثورة على البنية التحتية الراسخة والمستحكمة التي تنتج الاستبداد والفساد والتطرف، وهي بنية ثقافية شديدة التخلف شكلت عقلياتنا وطرق تفكيرنا ونظرتنا للآخر وعلاقتنا بالعالم المعاصر، وهي التي تفرز أوضاعنا المحبطة وكافة الظواهر السلبية التي نشكو منها، هذه البنية الثقافية يجب تفكيكها وبيان آفاتها المعوقة للنهوض العربي عبر نصف قرن. إن المجتمعات العربية بعد نصف قرن من مشاريع التنمية الفاشلة في ظل الأنظمة الانقلابية، لا زالت عالة على غيرها في غذائها ودوائها وسلاحها وسائر مقومات معيشتها.. فهل تكون ثورات الربيع العربي بداية لعبور فجوة التخلف بين مجتمعاتنا والمجتمعات المزدهرة؟! نقلا عن صحيفة الاتحاد