كان هتاف ثورة يناير "حرية .. عدالة .. كرامة إنسانية" الحرية والاستقلال هما أهم أهداف الثورات العربية وأخطر إنجازات الربيع العربي التي ستتحقق إن شاء الله تعالي. لقد كان تاريخ مصر دوماً يسطّر آيات الجهاد والكفاح من أجل الاستقلال، فمصر أحد أقدم دول العالم التي حباها الله بخصائص الدولة المستقلة. طبيعتها الجغرافية ، تركيبتها السكانية، حدودها الطبيعية، خصائص المواطنين فيها .. كل ذلك وغيره يعطي مصر القدرة علي الاستقلال. ولا يعني الاستقلال هنا الانفصال عن المحيط الأوسع العربي والأفريقي والإسلامي والمتوسطي. ففي التاريخ القديم كان استقلال مصر يعطيها فرصاً للتمدد والتوسع إلي منابع النيل حيث حماية الأمن القومي لمصر، ويعرضها لمخاطر وتهديدات تمثلت في الهجمات المستمرة من الشمال والشرق والغرب. هددنا اليونانيون واحتلوا بلادنا قرابة ال 300 سنة، وغزا بلادنا الرومان بعد اجتياحهم لحوض البحر الأبيض المتوسط وأقاموا امبراطوريتهم التي حولوا فيها البحر المتوسط إلي بحيرة رومانية، واحتلوا بلادنا لقرابة 700 عام حتي جاء الفتح الإسلامي العربي ليغيّر مصر تغييراً استراتيجياً ويعطيها دوراً محورياً في الإمبراطورية الإسلامية. احتضنت مصر وأهلها العقيدة الجديدة، وآمنت بالإسلام، وامتزج جميع سكانها في ثقافة جديدة تنطق بالعربية، وشاركوا بجدية واهتمام في بناء حضارة جديدة هي الحضارة العربية الإسلامية مع مجموع حضاري امتد من أواسط أسيا وشرقها إلي المغرب العربي، ورغم إن إسهامهم جاء بعد الإسهامات الأولي لأهل الشام والعراق وبلاد فارس وما وراء النهر إلا أن إسهام المصريين كان متميزاً. سرعان ما كان سعي مصر للاستقلال يؤكد مسئوليتها ودورها عن حماية ودعم الحضارة الإسلامية والوجود الإسلامي نفسه ، كما كان إيمانها المسيحي أيضاً مؤكداً لاستقلالها عندما دافعت عن قانون الإيمان المسيحي في مواجهة الكنيسة الرومانية التي شهدت انشقاقات وخلافات في المجامع المسيحية في "نيقية" و "خلقدونية" وغيرها بدءاً من القرن الرابع الميلادي، وقدّم المصريون مئات الشهداء دفاعاً عن استقلال الكنيسة الأرثوذكسية عن كنيسة روما، فكان عصر الشهداء شاهداً علي استقلال مصر في إيمانها وعقيدتها وروحانيتها حيث بدأ من هنا عصر الرهبنة الحقيقي الذي تشهد عليه صحاري مصر وقلاياتها المنتشرة حتي الآن. ظهرت في مصر بعد الفتح الإسلامي الدولة الطولونية والدولة الفاطمية والدولة الأيوبية ودولة المماليك قبل أن تدخل في إطار الإمبراطورية العثمانية. ودافعت مصر وجيشها وجنودها وأهلها عن الوجود الإسلامي والحضارة الإسلامية ضد الغزو الهمجي التتري وهزمت جنود "هولاكو" في "عين جالوت" ، وعملت مصر بقوة علي توحيد الجبهتين المصرية وبلاد العراق والشام إضافة إلي الحجاز للتصدي لممالك الفرنجة التي تسترت بشعار الصليب وهو منهم براء، واستوطنوا ساحل المتوسط، وحاولوا عدة مرات غزو مصر حتي استطاع "صلاح الدين الأيوبي" إخراجهم من "القدس" بعد النصر العظيم في "حطين" واستطاع المماليك إخراجهم من المشرق العربي بعد مائتي سنة من الاحتلال. وبعد حوالي مائتي عام من الانضواء تحت لواء الإمبراطورية العثمانية بدأ سعي "محمد علي " لبناء دولة مصرية حديثة تحظي بنوع من الاستقلال في إطار الخلافة الإسلامية، وتحطم حلمه قبل وفاته ولكن السعي للاستقلال ظل حلماً يراود حفيده " إسماعيل" الذي استطاع تحقيقه جزئياً باتفاقية مع "استانبول" ثم كان الاحتلال البريطاني الذي حوّل دفة اهتمام المصريين نحو الجلاء ثم الاستقلال. اليوم ونحن نبني مصر الحديثة بعد عهد الاستبداد والديكتاتورية والتبعية والفساد، نلاحظ أن هدف الاستقلال يجب أن يظل حيّاً في نفوس المصريين وأن أحد مخلفات نظام حسني مبارك هو التبعية المهينة للغرب والخدمات المجانية التي قدّمها للعدو الصهيوني، هذا الاستقلال وتلك الحرية تقتضي من كل المصريين العمل الجاد والدؤوب لبناء اقتصاد قوي، وتحقيق تماسك الجبهة الداخلية والمجتمع المصري بكل مكوناته، والاستمرار في دعم الجيش المصري ليبقي قوياً صامداً حديثاً قادراً علي الحماية والردع بما يعنيه ذلك من إمكانات وتسليح وتدريب وقوات. هذه الحرية التي تعني الاستقلال تعني إيماناً بقدرات مصر والمصريين، وروحاً وثابة متوهجة تسعي دوماً إلي المعالي وكرائم الأمور، وتعليماً حديثاً متطوراً يؤهل الشباب ليس فقط للتوظيف ومجالات العمل بل للابتكار والتطوير، ونظاماً صحياً وقائياً وعلاجياً يحفظ للمصريين قوتهم الروحية والجسدية وطاقاتهم البدنية لتحمل أعباء الاستقلال وتضحيات الحرية، وبيئة نظيفة آمنة تتيح للجميع التأمل والتفكير الحر المنطلق إلي آفاق الإبداع. استقلال مصر لا يعني عزلتها ولا انقطاعها عن محيطها، فهي كانت ولا تزال هدفاً لكل المشاريع الأخري التي تريد الهيمنة والسيطرة لأنها أحد أهم مفاتيح الاقليم كله بسبب موقعها الجيواستراتيجي المتفرد وبسبب إمكاناتها الكامنة في أهلها، سواء تم تفعيل تلك الطاقات الكامنة لتوظيفها في أي مشاريع أخري، أو تم العمل علي إخماد تلك الطاقات لكي تبقي مصر مهمشة ومهملة وضعيفة لتتيح للآخرين إما إلحاقها بمشاريعهم أو حصارها بكل الطرق. الخيار الاستراتيجي لمصر في مرحلة ما بعد الثورة العظيمة يجب أن يجمع بين 3 عناصر كلها مهمة : الأول: بناء مصر المستقلة الحرّة في كل الجوانب. الثاني: التعاون والتكامل مع دول المنطقة جميعاً دون استثناء لبناء نظام إقليمي قوي هدفه تحقيق الأمن والسلم والرخاء لكل دول المنطقة ولكل أبنائها. الثالث: التصدي لمشاريع الهيمنة والسيطرة الخارجية التي نهبت ثروات المنطقة، وأراقت دماء الشهداء علي مدار قرون، وتريد الإبقاء علي المنطقة تحت الاحتلال العسكري أو الاقتصادي أو إخضاعها للهيمنة الروحية أو الثقافية. وفي إطار التعاون مع دول المنطقة فإن التوازن المصري الذي يتيحه لها موقعها يجعلها واسطة العقد بين جميع الدول والاتجاهات لتحقق مزيجاً فريداً مع تركيا الحديثة العلمانية ، وإيران الصاعدة الإسلامية، وأفريقيا المتحررة الواعدة ، وجنوب المتوسط المثقل بالأعباء الآن . ولكي يكون الدور المصري عظيماً وفاعلاً فعليها أن تجعل في مقدمة أولوياتها بناء نظام عربي يعالج جميع أخطاء " الجامعة العربية" ويداوي التصدع الخطير الذي نشأ بسبب التحالفات الجهوية التي لم يتبق منها إلا "مجلس التعاون الخليجي" . علي مصر الحديثة وعلي حكومة الثورة المصرية التي ستأتي بعد الانتخابات البرلمانية أن تعطي أولوية لعدّة أمور علي السواء: أولاً: تأمين اتفاقية "دول حوض النيل" لحماية مواردنا المائية ونهر النيل والاهتمام بأفريقيا ضد المشاريع الخارجية. ثانياً: دعم ليبيا الثورة وإعادة إعمار ليبيا الحديثة ، وبناء مؤسسات الدولة والحفاظ علي ثروات ليبيا من النهب حيث يتربص بها الجميع الآن. ثالثاً: علاقات أوثق وتكامل اقتصادي أوسع مع السودان الذي يحتاج إلي الثروات العربية والأيدي العاملة لتأمين القمح والذرة والانتاج الحيواني ، مع السعي للحفاظ علي استقرار وتماسك وأمن السودان في شماله وجنوبه. رابعاً: كسب ثقة دول الخليج والسعودية وإعادة الاعتبار إلي الجامعة العربية وقيادة عمل عربي مشترك يحقق للمواطن العربي والشعوب العربية آمالها في الحرية والديمقراطية والتنمية مع الأخذ في الاعتبار خصوصيات كل مجتمع وتطور كل دولة . خامساً: رفع الحصار عن غزة والشعب الفلسطيني ودعم الحقوق الفلسطينية الثابتة وإعادة الوحدة الوطنية للصف الفلسطيني. سادساً: بدء حوار جاد مع دول الجوار خاصة تركيا وإيران حول آفاق المستقبل للأقليم كله علي أسس ثابتة مبنية علي الاحترام والتعاون والتكامل وعدم التدخل في الشئون الداخلية لأي دولة. نقلا عن صحيفة الاخبار