لم يتوحد المصريون في فترة من فترات تاريخهم الحديث كما توحدوا في أيام ثورة 25 يناير.. يومها شعر كل مصري أنه يدافع عن أرض ووطن ومستقبل وأننا جميعا في سفينة واحدة يجب الا تلقي مصير العبارات الغارقة في ظل النظام السابق.. توحد المصريون في ثورة يناير حول أشياء محددة وواضحة وصريحة ولهذا كان تقدير العالم لهم اعترافا بعراقة شعب وتاريخ وطن.. وتصورنا أن اللحظة التاريخية التي وحدتنا حول قضايا الحرية والعدالة والمساواة سوف تكون دستورا يحدد مسيرة المستقبل في مصر التي نريدها.. ولكن للأسف الشديد بقدر ما كان التوحد بين أبناء الشعب الواحد مثار تقدير واعتزاز بقدر ما كانت الانقسامات الدامية أخطر ما نتعرض له الآن حيث لا تجد خمسة أشخاص من بين 85 مليون مواطن يتفقون على شيء واحد.. ظواهر غريبة وسيئة ظهرت في حياتنا كشعب وسلوكياتنا كأشخاص بحيث أنها أصبحت تهدد مستقبل هذا الوطن.. هناك انقسام واضح وصريح بين أجيال مصر ولابد أن نعترف بأن لغة الخطاب قد اختلفت تماما.. نحن أمام أجيال جديدة نجحت في إشعال ثورة أطاحت برأس النظام والواضح أن النظام نفسه كان قد تهاوى وكان من السهل أن يسقط في ساعات وليس في أيام فقد فقد كل مقومات وجوده.. نحن أمام أجيال جديدة نشأت في ظل مناخ سياسي وثقافي واجتماعي مريض.. ولهذا كان من السهل أن تظهر كل أمراضنا مرة واحدة في هذه الأجيال التي لم تتوافر لها الظروف الإنسانية المناسبة لكي تتشكل بصورة متوازنة في الأخلاق والسلوك والثقافة.. أن قضية مصر الأولى الآن هي قضية شبابها الذي يزيد تعداده على 50 مليون إنسان تتراوح أعمارهم ما بين 18 إلى 40 سنة.. وفي ظل حسابات إنسانية واقتصادية واجتماعية فإن هؤلاء الشباب يعتبرون ثروة حقيقية لأن المجتمعات الشابة في العالم كله قليلة في عددها وظروف نشأتها وللأسف الشديد أن ما يعتبره العالم شيئا إيجابيا وظاهرة صحية تدعو للتفاؤل تحول عندنا أمام الإهمال والاستبداد والفقر إلى عبء كبير نعاني منه الآن وقد كان لذلك شواهد كثيرة.. نحن أمام أجيال من الشباب لم تمارس العمل السياسي في أي مرحلة من مراحل حياتها.. أنها أجيال تربت ونشأت في ظل تركيبة اجتماعية تحاصرها القيود ابتداء بقيود المجتمع وانتهاء بقيود السلطة أنها أجيال عاشت ثلاثين عاما لا ترى غير حاكم واحد وحزب واحد وإعلام واحد وثقافة واحدة ووجوه لم تتغير في كل مجالات الحياة.. نحن أمام شباب دخل السجون مبكرا.. وحرمته السلطة من أن يعيش حياته كما يحب وكما يريد إذا اتجه إلى الله حاصرته قوات الأمن في المساجد.. وإذا اتجه إلى الشيطان حاصره الإعلام في فضائح موسيقى الميتاليك وعبدة الشيطان.. وهذا الشباب نفسه كان محرما عليه أن يمارس العمل السياسي في الجامعة الا إذا انتسب إلى حورس والحزب الوطني ولجنة السياسات.. نحن أمام جيل عاش كل سنوات عمره في ظلام دامس وحين فتح عينيه ونظر للسماء ووجد أن هناك صبحا وسماء وقمرا بدأ يتمرد على واقعة البغيض فاتجه إلى أكثر من مكان ولهذا لم يكن غريبا يوم الجمعة الماضي على سبيل المثال أن يتجه فريق من المتظاهرين إلى دار القضاء العالي مطالبا بتطهير القضاء ويتجه فريق آخر إلى ماسبيرو مطالبا بتنقية الإعلام ويتجه فريق ثالث إلى وزارة الداخلية مطالبا بعلاقة أكثر إنسانية بين الشعب وأجهزة الأمن ثم يتجه فريق رابع ليهدم جدارا شاذا أقامته الدولة لحماية السفارة الإسرائيلية في توقيت خاطىء وظروف استثنائية وظل فريق آخر في ميدان التحرير يبعث برسائل غضبه ورفضه وأحلامه.. إن الأزمة الحقيقية أن كل هذه الفرق من الشباب لم تجد أحدا يتحدث أو يتحاور معها.. لقد وجد هؤلاء جميعا أنفسهم في الشارع بلا أمن وبلا مسئولين وبلا أحزاب وبلا حكماء يتحدثون معهم.. أن هؤلاء الشباب لم يجدوا يوما من يتحاور معهم أو يسمعهم أو يشعر بآلامهم لا في البيت والأسرة ولا في المدرسة ولا في الجامعة ونزلوا إلى الشوارع بلا عمل.. نحن شعب فقد القدرة تماما على الحوار أمام لغة القهر والاستبداد.. أننا بذلك نعيد صور الأمس البغيض حيث كان الشعب في وادي والمسئولين في وادي آخر.. أن معظم الشباب الذين ذهبوا إلى دار القضاء العالي لا يعرفون شيئا عن الدستور والذين ذهبوا لاحراق علم إسرائيل لا يعرفون الكثير عن اتفاقية كامب ديفيد لأن 90% من هؤلاء لم يكونوا قد ولدوا يوم أن وقع السادات هذه الاتفاقية في سبعينيات القرن الماضي.. نحن هنا أمام أجيال لم تجد الثقافة الصحيحة ولا التعليم السليم ولم تجد مناخا سياسيا يوفر لها الوعي الكامل ولغة الحوار.. نحن أمام شباب تلوثت كل منابع تكوينه ما بين سطحية مفرطه في الثقافة وفساد مخيف في الإعلام وجهل مدقع في التعليم وبعد ذلك نطالبه الآن أن يتحاور بوعي وأن يعارض بفهم وأن يتظاهر بترفع وأن يتحدث عن الديمقراطية والدستور وحقوق الإنسان وكلها أشياء لم يمارسها أبدا في حياته القصيرة وإذا كان قد عرف شيئا منها فقد كانت معلومات مغلوطة وأفكار مشوشة.. هذه الأجيال نشأت في ظل سلطة مستبدة وأحزاب وقوى سياسية مغرضة ومناخ ثقافي وفني وإعلامي شديد الانحطاط بجانب تعليم أفسد أهم مقومات هذا الوطن وهو مؤسساته التعليمية بما فيها من ثوابت أو قيم.. نحن أمام جيل من الشباب العاطل.. كنت أشاهد ألاف الشباب وهم يحملون الشواكيش ويهدمون جدار الحكومة الذي أقامته أمام السفارة الإسرائيلية وسألت نفسي لماذا لم تتجه هذه القوة وهذا العنفوان إلى أرض سيناء الخالية.. هذا الشباب الذي استنفد شبابه وأحلى سنوات عمره في الطرقات والمقاهي وملاعب اللهو وكرة القدم ألم يكن أجدر به أن يذهب إلى المساحات الشاسعة من الأراضي في قلب سيناء.. ألم يكن الأجدر به أن يذهب إلى صحراء توشكا التي ألقينا فيها حتى الآن أكثر من 12 مليار جنيه ولم نفعل فيها شيئا.. ألم يكن هذا الشباب أحق بمئات المصانع التي بعناها وتخلصنا منها وتحولت بين أيدي أصحابها إلى عقارات ومنتجعات.. أن الآلاف من هؤلاء الشباب حصلوا على أعلى الدرجات في كلياتهم ولكن توريث الوظائف حال دون وصولهم إلى شيء منها.. لقد ورث أبناء القضاة منصات القضاء وورث أبناء الأطباء المستشفيات وكراسي الجامعة وورث أبناء المحامين الكبار مكاتب أبائهم حتى الفنانون والصحفيون والإعلاميون ولاعبو الكرة ورثوا أعمالهم لأبنائهم.. إن الالاف من هؤلاء الشباب الذين تظاهروا في التحرير أو القضاء العالي أو ماسبيرو كانوا الأحق والأجدر بأن يكونوا الآن في أعلى الوظائف والمناصب.. ولكن أمام نظام فاسد مستبد ومجتمع نسي العدالة وتخلى عن كل القيم الإنسانية أطاح بأصحاب المواهب الحقيقية من أجل أبناء الأكابر واللصوص وحملة المباخر وكذابي الزفة والمنافقين على كل الموائد.. ألم يكن غريبا أن يرفع شبابنا.. شباب مصر بكل تراثها صور رموز أخرى غير رموز بلادهم.. من يصدق أن النموذج الأكبر في خيال شبابنا الآن هو رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان وهو نموذج رفيع وقدوة طيبة بكل تأكيد ولكن لماذا لا يكون أمام شبابنا عشرات النماذج الإنسانية الرفيعة في كل شيء من أبناء وطنهم.. أن خطيئة النظام السابق أنه أهدر كل قيم هذا المجتمع واستباح رموزه وكان دائما حريصا على أن يختار الأسوأ في كل شيء.. ولهذا قصرت القامات حتى أصبحت أقزاما واستطاع هذا النظام الفاسد أن يجهض كل أصحاب القامات الرفيعة في هذا الوطن.. وعندما كبر شبابنا أصبح النموذج الوحيد والقدوة الوحيدة هي مطرب هابط أو لاعب كرة أحرز هدفا.. لقد اختصر هذا النظام مصر بكل تاريخها في مجموعة أشباح مشوهة من البشر حيث لا قدرات ولا مواهب ولا انتماء جثموا على أنفاس شعب مغلوب على أمره عشرات السنين.. لقد انقلب الهرم الاجتماعي في أرض الكنانة حيث أصبح مجموعة من السماسرة وتجار الأراضي هم سادة هذا المجتمع في سلطاته وماله ونفوذه وانزوت كل الطبقات تنعي حظها الأسود أمام غياب العدالة وغياب القدوة وانحطاط السلوكيات.. أن الأخطر من ذلك أننا أمام هذه الصور المختلفة والمريضة فقدنا الثقة في أنفسنا وقدراتنا.. أننا نتحدث عن أنفسنا بروح الهزيمة رغم أننا شعب يحمل رصيدا تاريخيا عظيما في كل شيء في إبداعاته وإنجازاته وقدراته.. كثيرا ما تسمع من يتحدث عن النموذج التركي في الإسلام رغم أننا كنا ومازلنا أهم معاقل العقيدة الإسلامية بالأزهر الشريف والعلماء الأجلاء.. تجد من يتحدث عن النموذج الاقتصادي في ماليزيا.. أو سنغافورة أو حتى دبي ودول الخليج.. رغم أن المقارنة أمر لا يليق فقد كان عندنا طلعت حرب وعشرات النماذج البشرية المشرفة في كل المجالات منذ عشرات السنين.. وتجد من يقارن بين جامعة القاهرة بكل عراقتها وجامعات إسرائيل.. لقد كنا دائما في موقع المقارنة مع دول أوربا المتقدمة وحين انتهت الحرب العالمية الثانية جاءت إلى مصر وفود كثيرة هاربة من ويلات الحرب في إيطاليا وألمانيا وأسبانيا واليونان لماذا كل هذا الإحساس بالعجز وعدم القدرة الذي خلفه فينا النظام السابق وجعل كل أحاديثنا عن الزيادة السكانية والفقر والجوع ومعدلات الجريمة وأنفلونزا الطيور والخنازير في وقت كان فيه لصوص النظام يسرقون لبن أطفالنا الصغار.. في تقديري أن قضية مصر الأولى الآن هي قضية شبابها الذي خرج من سراديب ظلام طويل ليشاهد الأنوار في ميدان التحرير وعلى شاشات التلفزيون وأعمدة الصحف والجرائد ويفتح عينيه على وطن جديد أصبح لديه رصيد كبير من الأحلام في غد أفضل.. يجب أن نسعى لفهم أجيالنا الجديدة ونعطيها الفرصة لأن تتعلم وقد تخطىء وهي تسير خطواتها الأولى نحو المستقبل إلا أن الشيء المؤكد أن غدا سيكون أفضل وأن هذه الأجيال التي ذاقت طعم الحرية سوف تكون أقدر على صياغة حياتها المهم أن نسمع لهم ونعطيهم خبراتنا وتجاربنا ولا نتعالى عليهم وأن ندرك بأمانه أن ما أصابهم من الأمراض والعلل كان من أخطائنا وعلينا الآن أن نصلح أنفسنا قبل أن نفكر في إصلاح ما حولنا.. ..ويبقي الشعر ماذا تبقي من بلاد الأنبياء.. لا شيء غير النجمة السوداء ترتع في السماء.. لا شيء غير مواكب القتلي وأنات النساء لا شيء غير سيوف داحس التي غرست سهام الموت في الغبراء لا شيء غير دماء آل البيت مازلت تحاصر كربلاء فالكون تابوت.. وعين الشمس مشنقة وتاريخ العروبة سيف بطش أو دماء ماذا تبقي من بلاد الأنبياء خمسون عاما والحناجر تملأ الدنيا ضجيجا ثم نبتلع الهواء.. خمسون عاما والفوارس تحت أقدام الخيول تئن في كمد.. وتصرخ في استياء خمسون عاما في المزاد وكل جلاد يحدق في الغنيمة ثم ينهب ما يشاء خمسون عاما والزمان يدور في سأم بنا فإذا تعثرت الخطي عدنا نهرول كالقطيع إلي الوراء.. خمسون عاما نشرب الأنخاب من زمن الهزائم نغرق الدنيا دموعا بالتعازي والرثاء حتي السماء الآن تغلق بابها سئمت دعاء العاجزين وهل تري يجدي مع السفه الدعاء.. " من قصيدة ماذا تبقي من بلاد الأنبياء سنة 2000 " نقلا عن جريدة الأهرام