ها هي الشعوب العربية تولد من جديد بعد سقوط الطاغية رقم ثلاثة في قائمة الطغاة العرب: »معمر منيار القذافي«.. فالثورات العربية تعيد صياغة وتشكيل البلدان العربية التي أرهقها القمع والاستبداد وتستعيد حيويتها وقدرتها علي الانتصار. وها هي الحلقة الثالثة من »الربيع العربي« تكتمل مع انهيار النظام الحاكم في ليبيا. والديكتاتور لا يكتفي بفرض سطوته علي الشعب الليبي علي مدي اثنين واربعين عاما وانما يريد استمرار البقاء!! انه ضمن مجموعة من الحكام الذين اغتصبوا السلطة باسم فلسطين والتحرر والوحدة العربية.. فلم يتركوا وراءهم، بعد اكثر من نصف قرن، سوي الخراب والأجهزة البوليسية.. والمخبرين والفاسدين. توهم القذافي انه سبب وجود بلاده وأن اهل هذه البلاد هم رعاياه، وأعطي نفسه عليهم حق الحياة والموت.. فاخترع لهم تاريخا خاصا واسما خاصا: »الجماهير العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمي«، واعتبر نفسه صاحب » النظرية العالمية الثالثة« التي أطلقها لتتجاوز الماركسية والرأسمالية، ونشر ما اسماه ب الكتاب الأخضر« ليكون الوثيقة التي ستعلن انتصار نظريته الكونية التي يجب ان تسود العالم!! ووجد القذافي من ينافقونه حتي في الغرب. وتطوعت إحدي الفرنسيات باصدار كتاب عن القذافي »نبي الصحراء الجديد«! وبلغ غرور التفوق وأنانية التسلط والعنجهية الذروة.. عندما وجه الدعوة لمثقفين عرب لمناقشة كتابه الأخضر الذي يضم اثنين وثلاثين صفحة واقل من الفي كلمة. وغضب القذافي بشدة عندما سخر المفكر المصري محمود أمين العالم من محتوي الكتاب. فرض القذافي علي الليبيين نظاما سياسيا خاصا يرفض التعددية والأحزاب ويسفه الديمقراطية، ويصادر حريات المواطنين، ويجعل من نفسه الأب الذي ينبغي علي الأمة ان يرفعه الي مرتبة القداسة. وكما جرت العادة، فان الديكتاتور يعتقد انه وحده الذي يعرف مصلحة الشعب، وأن غيابه سيترك فراغا.. لن يسده الا اعداء الوطن! ويحاول الطاغية الايهام بانه رأس الحكمة وضمان استمرار الوطن، ومن دونه تسقط البلاد في يد الأعداء. ولم تعد تنطلي علي الليبيين تلك »الأبوة« الزائفة والمريضة. ولم يعد أحد يصدق ان الثورة علي الطاغية ليست سوي مؤامرة غربية، اوربية امريكية. فالليبيون يعرفون انه كان يتخذ من أموال البترول الليبي وسيلة لتثبيت زعامته، وان كميات من النفط التي يجري بيعها لا تظهر عوائدها في خزينة الدولة، وان القذافي كان يتصرف في خيرات بلد بحجم نصف اوربا، كما لو كانت هذه الخيرات من عزبته الخاصة.. فكل شيء كان يصرف له أو يصرف بأمر منه. ويقول وزير البترول الليبي السابق ان سيف الاسلام القذافي« قام بتحويل 052 مليار دولار من عائدات النفط، باسمه الي اوربا. وفي يوم تتويج القذافي ملكا علي ملوك افريقيا وقبائلها، أقام لنفسه عرشا من الذهب. وجعل هذا الرجل من ليبيا خيمة صغيرة وسركا كبيرا وكان يصف معارضيه بالكلاب الضالة والجرذان. وكل محاولة لتحليل هذا الرجل تعني اعطاء معني لشيء لا معني له. وعندما تحاول ان تتجاسر وتتوغل في التحليل تشعر بشيء من الدوار احيانا أو بانك في كابوس وسط مشاهد مرعبة تتوسطها الساحرات الشريرات والغيلان والوحوش.. فالقذافي هو آلة قتل، وربما تنطبق عليه صفات أكلة لحوم البشر، الذين يحولون الحياة الي مأدبة قتل دائمة.. وعربدة لا تنتهي فوق الأشلاء. وفي حالة القذافي لسنا بازاء سقوط حكام، ولكننا بازاء جرح في ضمير الانسانية. وعندما سقط صدام حسين في العراق في قبضة جلاديه الذين شنقوه، اصيب القذافي بالرعب، وابلغ الامريكيين بانه تخلي عن برامج اسلحة الدمار الشامل، واعلن تنازله عن مواقفه السابقه، وعن كل ما يعرضه لانتقاد الامريكيين. وقت مضي -ان الرجل الذي قرر الانتقام من الرئيس الامريكي ريجان الذي قصف مسكنه في طرابلس بأن أمر بتفجير طائرتي الركاب الفرنسية »اليو - تي - ايه« فوق صحراء النيجر، وطائرة »البانام« الامريكية فوق ايرلندا، وتفجير مرقص برلين في المانيا.. يمكن ان يصبح قطة وديعة من أجل البقاء في السلطة. وقد اعترف القذافي أمام أحد الصحفيين اللبنانيين - ذات - مرة بانه انفق ما لا يقل عن مليار دولار علي زعماء أحزاب متقاتلة في افريقيا. وتؤكد مصادر غربية ان نصف اموال البترول الليبي كانت تنفق علي 24 منظمة » ارهابية« في العالم. الآن.. اقتحم الثوار الليبيون حصن بابا العزيزية المنيع في العاصمة طرابلس، بينما يأمر القذافي الفلول الباقية من جيشه بمواصلة القتال عبر جيوب متفرقة داخل العاصمة وخارجها. ومنذ عام 4002 -علي الاقل- كان القذافي يقدم للغرب كل ما يريده واكثر.. ولكن هذا الغرب نفسه انقلب عليه عندما قرر الشعب الليبي ان يتحرر من طغيانه. وبطبيعة الحال، فان الغرب ليس جمعية خيرية للبر والاحسان، ولكنه يبحث عن مصالحه. وهناك طامعون كثيرون في ثروات ليبيا الطبيعية، وفي مقدمة الطامعين دول حلف شمال الاطلنطي التي قامت بقصف جوي لأهداف داخل الأراضي الليبية لتسهيل زحف الثوار. واذا كان الثوار الليبيون قد نجحوا في اسقاط مشروع تقسيم ليبيا، الذي كان يخشاه الكثيرون، مما يؤدي الي شطر ليبيا الي شطرين واثبت الشعب الليبي ان التحرر من الديكتاتورية ووحدة الوطن.. معركة واحدة، فان المشكلة الملحة التي ستواجه الثوار الآن هي التصدي لهؤلاء الذين يتلهفون علي توقيع اتفاقيات نفطية مع المجلس الوطني الانتقالي الليبي. ورغم اعتراف المجتمع الدولي بالمجلس الانتقالي، الا انه لم يرفع التجميد عن الاصول الخارجية الليبية ولم يستطع المجلس التصرف فيها حتي الآن، وهناك من يخشي ان تربط الدول الغربية تحرير هذه الاصول بشروط سياسية تتعلق بشكل النظام الجديد في ليبيا. ويواجه المجلس الانتقالي مهمة التنسيق مع الأممالمتحدة لتحرير الأصول المجمدة والاستعانة ببيوت الخبرة لاسترجاع أموال القذافي وأولاده والمقربين منه، كما سيواجه مشكلة استئناف انتاج البترول الذي تراجع من 1.6 مليون برميل يوميا، قبل الثورة، الي مائة الف فقط في الشهر الماضي. وسؤال آخر: هل ستحترم الشركات البترولية العالمية الاتفاقيات المبرمة في السابق مع نظام القذافي أم ان هذه الشركات تنتظر المكافأة.. لأن الدول التي توجد بها.. اتخذت موقفاً مويداً للثوار؟ المؤكد ان التدخل الخارجي لم تكن له أي فاعلية في المحطة الأخيرة الحاسمة للثوار، وهي العاصمة طرابلس. والمؤكد ايضا ان لمصر -وتليها تونس- مصالح هامة وحيوية في ليبيا التي تقع علي حدودنا الغربية ويمكن ان تحتضن عمالة مصرية هائلة، الي جانب مصالح أخري. وبالتالي، فإن علي حكومتنا ان تتحرك بسرعة لقطع الطريق علي محاولات فرض نفوذ أوربي - أمريكي علي النظام الجديد في ليبيا. والدعم المصري هو كلمة السر الآن في نجاح الثورة الليبية. المهم أن الربيع العربي يتجدد، وأن السؤال الآن هو.. من التالي: حاكم سوريا أم حاكم اليمن؟ نقلا عن صحيفة الاخبار