خلال الفترة الأخيرة.. تكاثرت الانتقادات في الصحافة ووسائل الاعلام لسلبيات عديدة ظهرت في الأداء الحكومي، وأتصور اننا في حاجة للبحث عن جوانب ايجابية في الأحوال الراهنة وإلقاء الضوء عليها.. واعتقد ان تولي الدكتور حازم الببلاوي منصب نائب رئيس الوزراء ووزير المالية من هذه الجوانب الايجابية. فالمعروف عن الدكتور الببلاوي انه من الذين وجهوا انتقادات شديدة لعمليات الخصخصة في مصر، لأنها كانت بعيدة عن الشفافية والمكاشفة، وجرت بطريقة »الخطف«، حيث صدر »قانون الأعمال« كمرحلة ضبابية وسط ما بين قطاع عام وقطاع خاص، فلم يعد هناك قطاع عام كما كان في السابق، ولم ينشأ قطاع خاص فاعل بسبب التأثيرات الحكومية، كما ان الببلاوي كان ينتقد بيع شركات ومؤسسات ومصانع بأسعار اعتبرها »مضحكة« والنتيجة هي ان القطاع العام خسر قوته وعنفوانه، بينما لم يظهر قطاع خاص مستقر تسوده منظومة من القيم والأخلاقيات والضوابط. هكذا كانت إجراءات الخصخصة تجري في الخفاء دائما- فيما يري الدكتور الببلاوي- دون توضيح للمعلومات أو إبداء للأسباب الداعية إلي بيع الشركات مما يدفع إلي التشكيك في سلامتها.. وهذا التشكيك له ما يبرره.. ويضرب الببلاوي مثلا علي اخطاء استراتيجية في عمليات البيع، مثل.. بيع المراجل التي كان يملكها القطاع العام، ولها أهمية في حالة استئناف تطوير الأبحاث النووية.. وقد سارعت الشركات الانجليزية لشراء المراجل بثمن زهيد حتي لا تبقي في أيدي الدولة المصرية. الآن.. يؤكد الببلاوي ان التوجه الحكومي نحو إلغاء الخصخصة لن يؤثر علي اقتصاد السوق، وان الحكومة ترفض طرح أي سندات دولارية بالخارج لتمويل عجز الموازنة العامة وسوف تستعيض عنها بطرح سندات محلية.. هنا نتوقف عند وجهة نظر الببلاوي في اقتصاد السوق.. هذا الاقتصاد لا يقوم - في رأيه- علي السوق وحدها، وإنما يقوم علي قدمين هما.. السوق والدولة. ومن الناحية التاريخية، نجد ان الرأسمالية لم تنشأ في القرن الثامن عشر نتيجة لوجود السوق، وإنما.. لأن الدولة الحديثة ظهرت إلي الوجود.. فالسوق لا تقوم إلا إذا وجدت دولة قوية تتحمل مسئوليات كثيرة.. والسوق ليس معناها الفوضي..وأتذكر الآن تحذيرات الببلاوي منذ سنوات التي يعلن فيها ان ضرورات تدخل الدولة في الاقتصاد في ظل اقتصاد السوق.. اكثر من ضرورات تدخلها في ظل الاقتصاد المركزي.وكانت هذه التحذيرات تصدر في وقت يسعي فيه النظام السابق إلي إلغاء دور الدولة في النشاط الاقتصادي. مشكلة التفاوت الصارخ في الدخول في المجتمع المصري.. كانت تزعج الببلاوي دائما، كان يقول ان فئات كثيرة من الشعب مطحونة بسبب تدني مستوي دخولها، بينما هناك من حققوا مكاسب ويستحوذون علي نسبة عالية من الدخل وظل الببلاوي يتساءل: كيف أصبح لدينا كل هذا العدد من أصحاب المليارات رغم أننا في دولة لم تنتقل إلي الاقتصاد الحر إلا منذ وقت قصير.. من أين لهم كل هذه المليارات؟!! ويجيب الببلاوي عن هذا التساؤل بقوله: ان بيع أصول معينة للدولة هو مصدر هذه الثروات، ويشير إلي مثال أرض »مدينتي« وكيف حصل عليها واحد من هؤلاء المليارديرات بثمن رخيص أو عن طريق ما يسمي ب»التخصيص« في ظل انعدام الشفافية. ليس من المألوف ان يستخدم المفكر الاقتصادي عبارة جميلة للتعبير عن رأيه.. ولكن الببلاوي يذكر واحدة من تلك العبارات الأخاة. يقول: »ان هدف الاقتصاد هو - في الأصل- تحقيق السعادة للغالبية من الناس«. وهنا يتساءل د. الببلاوي مرة أخري: »هل يحقق الاقتصاد، فعلا، حاجات الناس، وبالتالي يوفر لهم السعاد «؟ ويرد بقوله ان اقتصاد السوق يوفر الحاجات لمن يدفع فقط، فالعبرة في الاقتصاد ليست في وجود الحاجة في ذاتها، وانما في وجود الحاجة المدعومة بالقدرة علي الدفع.. فالسوق لا تعترف بالحاجات إلا من خلال الأثمان ومن القادرين علي دفعها، وهكذا تبقي احتياجات غير القادرين حبيسة في نفوسهم، ولذلك.. فإن السوق لا تحقق السعادة إلا لمن يقدر علي دفع الثمن، فهي تتاح فقط لأعضاء ناد خاص، هم الذين يتمتعون بدخول مناسبة. النتيجة التي توصل إليها الببلاوي هي ان هذه »السعادة« ترتبط بمدي عدالة توزيع الثروات والدخول. كما ان زواج السلطة ورأس المال يخلق أوضاعا شاذة يختفي فيها الفاصل بين المال العام والمال الخاص، وخاصة مع تركز الثروات في أيدي القلعة واتساع الفجوة بين الدخول بصورة متزايدة. والببلاوي رجل معتدل، فهو يري ان الفقر- في حد ذاته- يمكن تحمله.. أما عندما تشاهد جانبك مظاهر ثراء فاحش وغير مبرر وغير مستحق.. فانك لن تستطيع تحمل هذه الأوضاع. ولما كان المواطنون يعانون من غلاء شديد دون رقابة علي الأسعار إلي جانب فوضي عارمة في الأجور.. فهناك أجور لبعض الفئات لا تكفي لتوفير الحد الأدني لضرورات الحياة، بينما تحصل فئات أخري علي أجور تفوق ما تحصل عليها مثيلتها في الدول الغنية »!« علاوة علي البدلات، والحوافز والمكافآت! ولذلك، فإن مضاعفة الحد الأدني للأجور- مع مراعاة احتياجات الناس ومستويات الأسعار وقدرة الدولة- ينبغي ان يتحقق، وكذلك وضع حد أقصي للأجور خلال شهر، ويتم تطبيقه علي كل العاملين في الجهاز الإداري للدولة من وزارات وهيئات ومصالح وشركات وبنوك.. علي ان يعاد النظر في هذا الحد الأدني والأقصي للأجور كل ثلاث سنوات للتأكد من ملاءمته للظروف الاقتصادية المتغيرة. كلمتا السر في دعوته هما: الكفاية والعدل، ولكي تكون الأولوية للفقراء في ميزانية 2102/3102 مع التأكيد علي الجانب الاجتماعي، ودعوة للشفافية الكاملة في جميع المصروفات وللمساءلة الحقيقة حول إنفاق الدولة. وهذا المفكر الاقتصادي يريد ان ندفع ثمن ما نشتريه من الخارج من عائدات مبيعاتنا للخارج، وان لا نعتمد علي موارد سوف تنضب خلال سنوات أو تتوقف علي ظروف خارجية. ويعتبر د. الببلاوي ان تصدير الغاز المصري لاسرائيل خطيئة.. فالتقدم الاقتصادي في العالم قائم دائما علي ان الإنسان قادر علي اكتشاف مصادر جديدة للطاقة.. وإذا كانت قد توافرت لدينا كمية من الغاز.. فهل نقوم بتصديرها للخارج؟ وقد تعلم المصريون من تجارب الماضي ان هناك فارقا بين الأقوال والأفعال، ولكن ثمة مؤشرات تحملنا، هذه المرة، علي الاعتقاد بان أقوال الدكتور حازم الببلاوي يمكن أن تتحول إلي أفعال. نقلا عن صحيفة الاخبار