تحتاج مصر الآن إلي عين تنظر باهتمام إلي المستقبل بقدر ما هي بحاجة إلي عين تفحص أخطاء ما كان. والحقيقة التي ينبغي أن تحظي بالاهتمام هي ألا نقع تحت ضغط الوقت فتأتي صياغتنا للمستقبل متعجلة وغير متأنية. صياغة المستقبل تتطلب الكثير من الدراسة والفحص حتي يمكن أن نصوغ نظاما سياسا واقتصاديا معبرا عن احتياجات وطموحات المصريين.هذا النظام يحتاج حوارا موسعا يشمل الأغلبية الصامتة التي عزفت عن المشاركة من قبل وتركت أقلية قليلة تحتكر الشأن العام فوجهته إلي حيث توجد مصالحها دون اكتراث بمصالح الشعب. أتابع مثل غيري الحوارات الكثيرة حول مستقبل الحياة في مصر. حوارات تطرح صياغات لمستقبل السياسة والإعلام والاقتصاد والتعليم وكل شيء تقريبا. يجمع بينها كراهية التدخل الحكومي في ضوء تجربة الحكومات السابقة. الكثيرون يتناسون حقيقة أن المجتمع لايستطيع العمل بدون حكومة لها كلمتها في مختلف شئون الحياة. وقد جاءت ثورة25 يناير بحكومة جديدة تستند إلي شرعية غير مسبوقة. حكومة ليس أمامها ولن يسمح لها بغير الإدارة الرشيدة لشئون المجتمع. حكومة سوف تعمل تحت رقابة شعبية حقيقية تتابع وتقيم سياساتها وقراراتها. لم تعد الحكومة مكروهة, بل هي حكومة جاءت بإرادة شعبية من ميادين الثورة, وأخذت شرعية المجلس العسكري الحاكم برئاسة المشير محمد حسين طنطاوي والممثل لضمير الوطن والحارس لمؤسساته وبنيانه والضامن لكيان الدولة, والذي يعلي قيمتها بل يحفظها وسط تغيرات وأنواء عاصفة رفعت مكانة وقدرة المؤسسة العسكرية وقيادته في الضمير المصري. بل هي حكومة جاءت بإرادة أمة قادرة علي تعيينها وقادرة أيضا علي إسقاطها. ومهما يكن شكل النظام السياسي الذي نريده فسوف تظل الحكومة محور هذا النظام. وعلينا أن نضع الحكومة في موقعها الصحيح من حياتنا غير خائفين من أن تعود إلي ممارسات سقطت ولن تعود. ربما أكثر ما تتمتع به الحكومة الحالية الآن هي الثقة التي تحظي بها شعبيا, وهذه هي البداية الحقيقية لمسيرة بناء صحيحة. وسوف تحتاج الحكومة هذه الثقة ما بقيت في الحكم. وحتي تظل الحكومة متمتعة بتلك الثقة عليها أن تبحث في خطاب سياسي ملائم, وأن تشرك الشعب في معرفة حقيقة المشكلات التي نواجهها والمزايا القائمة. وهذا ما فعله رئيسها د. عصام شرف في أول حوار مع المثقفين ورجال الإعلام أمس, عليها ألا تعد بما لاتستطيع تحقيقه. نحن نعلم أن المصريين يمكنهم الصبر علي مشكلاتنا الاقتصادية, لو أننا جميعا تحملنا العبء معا دون تمييز. سوف نتجاوز سريعا الأزمة التي خلفتها ممارسات الفساد الذي لم يكن يدرك حجمه إلا القلة التي صنعته. وحتي نساعد الحكومة علي الاحتفاظ بالثقة التي حصلت عليها, لا بد أن ننظر بشيء من التفاؤل في قدراتها علي تجاوز الأزمة الراهنة, وأن نواجه المرجفين والمتشككين وأن نمنحها الوقت والفرصة اللازمين لإصلاح ما أفسدته سنوات طويلة من الممارسات الخاطئة. فلن نبلغ ما نريد في شهور قليلة ولن نستطيع أن نمشي ونجري ونطير في وقت واحد. نحن علي بداية طريق صحيح قادر أن يضعنا في المكانة التي نستحقها ويبلغ بنا الأهداف التي نسعي من أجلها. وأولها أن نشارك جميعا بالعمل الجاد عبر عودة الهدوء والتكاتف لكل مؤسسات الإنتاج والعمل في بلادنا. نحن نحتاج أيضا إلي ثقافة جديدة تلائم المرحلة التي أخذتنا إليها ثورة25 يناير. ثقافة تدفعنا نحو المشاركة والتفاعل مع قضايا الوطن وتنهي عزلة الأغلبية التي مكنت لأقلية أن تختطف شئون مصر ومصالحها وتدفعها في الاتجاه الخاطئ. نحتاج إلي ثقافة جديدة تضع القانون منا موضع التقديس والإجلال طالما أصبحت تلك القوانين من صنع أيدينا تحقق مصالحنا ولاتستثني منا أحدا. نحتاج أيضا إلي أن نتفق علي أجندة عامة تحظي بالإجماع بيننا نعمل من أجلها في تناغم وانسجام. والحوار وحده الذي يمكن أن يحدد لنا أولويات عملنا في المرحلة القادمة. فالتحديات كثيرة فهي تقريبا قائمة في كل مجال من مجالات حياتنا ولسنا نريد لفريق أن يذهب وحده بتحديد أولويات العمل. فلا تهميش أو إقصاء ولا محاكم تفتيش في الضمائر والعقول.. وأن يكون انتقالنا وتغييرنا محترما للقانون وليس عشوائيا أو بسوء نوايا بل بضمير حي ويقظ.. لندرك أننا بين ثورتين الأولي استمرت60 عاما عبر4 جمهوريات ولم تستطع أن تحقق الديمقراطية ودولة القانون.. الثانية نعيش أيامها الأولي ونريد لمرحلتها الانتقالية أن تكون طريقنا لدولة القانون ودستورا جديدا يعطي للشعب كل حقوقه التي انتظرها منذ الثورة في الخمسينيات ولم تتحقق!. سوف تنتهي قريبا مشكلات الأمن الذي فرض نفسه علي المصريين جميعا وكذلك التعديلات الدستورية وغيرها من القضايا الملحة التي كشفت عنها الثورة نحتاج من الحكومة أن تطرح علي الشعب تحديات المرحلة المقبلة فلا حكومة بلا برنامج واضح ومحدد لنسألها عنه, ونحاسبه به حتي يمكن للشعب أن يقرر أولوياتها. نحن نحتاج إلي قدر من الإجماع يعصمنا من الخطأ أو التشرذم والاختلاف, فتتفرق بنا السبل والجهود فلا نستطيع تحقيق شيء. وعلينا أن نصبر علي الحكومة بل ونساعدها وعلينا أن نتقبل بصدق ما تقوله الحكومة وأن نتحاور معها بما يمكنها من اختيار أفضل البدائل في مواجهة تلك التحديات وأن يتسم حوارنا بالرغبة البناءة في الإنجاز والمساعدة بمشاركة حقيقية ولا نحملها بالاعباء فقط... * نقلا عن صحيفة الاهرام المصرية