مع العد التنازلي لإجراء الاستفتاء في التاسع من يناير المقبل بشأن مستقبل جنوب السودان بين الوحدة مع الشمال أو إعلان دولة مستقلة, من الأهمية الإحاطة بالخلفية التاريخية لمصر والسودان معا, التي تجعل من مصر حاليا أكثر الدول العربية والإفريقية ارتباطا بالحدث الجديد. فقد ارتبطت مصر والسودان بصلات قديمة طوال عصور تاريخ وادي النيل, ابتداء من تمازج الحضارتين الفرعونية والنوبية, إلي الحكم المشترك برئاسة بعنجي النوبي, إلي توحيد البلدين في عهد طهارقا الي الحضارة المروية وما واكبها من تداخل واتصال القبائل, والآثار الحضارية التي تأثر بعضها ببعض وأخذ بعضها من بعض, إلي أحمس وسياسة تنشئة أهالي النوبة العليا, حتي إذا شب جيل وفتح عيونه علي معالم حضارة مصر وأخذ بها صار كالمصري قلبا وروحا, إلي عصر المسيحية وانتقالها الي السودان عبر مصر, إلي الفتح الاسلامي لمصر, ومن هنا بدأ اتصال السودان بمصر طلبا للعلم خاصة في عهد السناري من مملكة الفونج الاسلامية منذ أوائل القرن السادس عشر, ولعب الأزهر الشريف دورا رائدا في هذا الصدد. وبدأت الصلة المباشرة بين مصر والسودان حينما تم لمحمد علي باشا فتح السودان عام1821, ومهما كانت الدوافع والأسباب سواء أكانت نبيلة أم استعمارية, فإن فتح السودان قد وثق العلاقات بين البلدين وازداد التبادل, والانتقال ونشطت التجارة وحملت معها ما تحمل عادة من صلات الفكر والثقافة والتقاليد وطريقة الحياة في كل من البلدين. وفي أول زيارة لمحمد علي للسودان عام1839 دعا زعماء القبائل في السودان الي إرسال أبنائهم إلي مصر للتعليم في مدارسها وكان يعني بهذا التعليم الحديث من زراعة وطب وهندسة, وبناء علي هذه الدعوة وفدت الي مصر أول بعثة من الطلاب السودانيين مكونة من ستة من أبناء وجهاء تلك البلاد. أرسلوا الي المدرسة التجهيزية ليتعلموا علم الزراعة, كما خصص للطلاب السودانيين عدة أروقة في الأزهر الشريف منها رواق طلاب دارفور, ورواق النوبيين, ورواق السناري. ولعل محمد علي باشا اكتفي في سياسته التعليمية بتشجيع السودانيين علي الذهاب الي مصر للتعليم, ولعل أول مدرسة فتحت في السودان لتدريس العلوم الحديثة من حساب ولغة كانت مدرسة الخرطوم التي افتحها رفاعة رافع الطهطاوي الموظف بديوان المدارس في عهد عباس عام3581, واستهدفت المدرسة توفير موظفين سودانيين يعرفون القراءة والكتابة ليتولوا أعمال الكتبة والمحاسبين في دواوين الحكومة, وارسال النابغين منهم للدراسة في مصر في المدارس التجهيزية, وفي عهد إسماعيل تم فتح خمس مدارس موزعة علي المدن الكبري في الخرطوم, بربر, كردفان, دنقلة, كسلا. وكان جعفر مظهر حكمدار السودان في عهد إسماعيل محبا للعلم والأدب, فاجتمع حوله كثير من العلماء والأدباء الذين كسبوا عطفه, وشكلوا بذلك وسطا أدبيا وعلميا في أيامه وزاد من الصلة الثقافية بين مصر والسودان, وأخذ الأدباء والشعراء يرسلون أعمالهم الأدبية لنشرها في الوقائع المصرية في القاهرة. ولم تكن الصلة الثقافية والعلمية وقفا علي الأدب بل تعدتها الي مجالات اخري في العلوم التطبيقية مثل الصناعات الميكانيكية حتي يكون في استطاعتهم بعد رجوعهم إدارة العدد والماكينات التي لابد منها لحلج وكبس الأقطان كما تم إيفاد عدد من الطلاب السودانيين للدراسة في الأزهر. وفي عهد توفيق باشا أنشئت مدرسة للطب في الخرطوم واستمرت في عهد اسماعيل باشا حتي سقوط الخرطوم وانتصار المهدي علي غوردون باشا. ولقد كونت هذه المدارس نواة طيبة من القراء الذين اصبحوا في شوق للاطلاع علي الصحف والمجلات والكتب التي أخذت ترد الي الخرطوم من القاهرة منذ أوائل القرن العشرين. ومع التدخل البريطاني عملت لندن علي تقليص الوجود المصري في السودان, وعندما قامت ثورة 1919 نادت بالجلاء عن مصر والسودان ووحدة وادي النيل, وتردد صدي تلك الثورة في السودان, وكان هذا عاملا مساعدا للحركة الوطنية السودانية, ومع تولي سعد زغلول رئاسة الوزارة المصرية عام1924 أثيرت قضية السودان من جديد باعتبارها جزءا لا ينفصل عن قضية مصر, ولذا عملت لندن علي تصفية الوجود المصري في السودان خطوة خطوة, حيث تمت تصفية الوجود العسكري المصري وطرد الكثير من الموظفين وإغلاق المدارس المصرية. واستمرت بريطانيا تحول دون الوجود المصري ومحاولة تعكير العلاقات بين الشعب المصري والسوداني حتي قيام ثورة23 يوليو1952 وسارعت الثورة بإعطاء حق تقرير المصير للشعب السوداني عام1953 واستحدثت مبادرة تاريخية صارت فيما بعد نموذجا أمام مختلف كل حركات التحرير في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية, وعندما اختار الشعب السوداني الاستقلال رحبت مصر بذلك وحرصت منذ ذلك الوقت علي الوقوف الي جانب ارادة الشعب السوداني في اختيار نظامه الذي يرتضيه, وكانت مصر ولاتزال بإحساسها الصادق تؤمن بوجود إدارة سياسية قوية وكامنة لدي الشعبين المصري والسوداني بوحدة البلدين عاجلا أو آجلا. وتحققت نبوءة مصر في منتصف السبعينيات عندما دخلت مع السودان في تجربة التكامل الاقتصادي فيما بين1974 1985 وخلال تلك السنوات تبلورت بصورة أوضح الإرادة السياسية الكامنة لدي الشعبين, وقدما تجربة غنية بالدروس للتكامل العربي تستحق أن تكون الآن وأكثر من أي وقت مضي محل دراسة من مصر والسودان( شمالا وجنوبا) ولعل مبادرة التكامل التي حققت المصالح المصرية السودانية تكون مطلبا للجنوب السوداني أيا كانت نتيجة الاستفتاء في9 يناير, بل ان الجنوب السوداني حكومة وشعبا في هذه الحالة أكثر المستفيدين من انجازات التكامل المصري السوداني. نقلا عن صحيفة "الاهرام" المصرية