ليست مشكلة دارفور هي الشوكة الوحيدة في جنب السودان.. فلاتزال مشكلتا الجنوب والشرق تقضان مضجع السودانيين بالرغم من توقيع اتفاق نيفاشا للسلام في الجنوب قبل عامين ونصف العام, واتفاق أسمرة لإنهاء التمرد المسلح في الشرق قبل نحو السنة, مازالت السهام تتوالي علي حكومة الخرطوم من الخارج والداخل لأسباب منها ما يتعلق بتلك المشكلات, خاصة دارفور, ومنها ما يعود إلي مصالح شخصية وتصفية حسابات وسوء إدارة من الحكومة في الداخل. غير أن أزمة دارفور هي الأبرز والأعقد والأكثر تدويلا حاليا.. فهي المطية التي يركبها كل من له مطامع ومصالح يسعي الي تحقيقها في بلد مترامي الأطراف غني بالثروات خاصة البترول الذي تزداد وتيرة اكتشافه مع الحاجة إليه من الشرق والغرب علي السواء وللأسف ان من أتاحوا هذه المطية ليستخدمها كل طامع هم مسئولون سودانيون قصيرو النظر أصروا طويلا علي أن مشكلة دارفور ليست أكثر من مشكلة قطاع طرق وعصابات مسلحة أو علي أفضل تقدير هي نزاع تقليدي بين مزارعين ورعاة علي المراعي والمياه يتم حله عادة بالتوافق بين زعماء العشائر فاستفحلت القضية وظهرت حركات التمرد المسلحة التي تطالب بإنهاء التهميش للإقليم الذي تعادل مساحته أكثر من نصف مساحة مصر واعطاء أبنائه حقهم العادل في السلطة والثروة. ولم يتعلم قصيرو النظر من درس الجنوب حيث ظلوا يطلقون علي المتمردين صفة قطاع الطرق والعصابات المسلحة حتي فقدت الحكومة السيطرة علي الجنوب الذي يعادل مساحة أوغندا ورواندا وبوروندي مجتمعة, باستثناء أربع مدن. مازالت قضية دارفور تزداد تعقيدا.. تتقدم خطوة وتتأخر أخري ويتزايد المنتفعون والطامعون في الخارج تكالبا عليها كما تتداعي الأكلة الي قصعتها.. وكل يدعي أنه يهب لحماية حقوق الإنسان وحماية المدنيين من القتل والاغتصاب والتشريد, والسبب ليس فقط الطامعين والانتهازيين في الخارج والداخل وانما تتحمل السياسات المتخبطة للحكومة والتصريحات غير المدروسة من بعض السياسيين المسئولية علي قدم المساواة مع الأولين. مع مرور الوقت انقسمت كل حركة تمرد في دارفور الي اثنتين أو ثلاث أو خمس حركات حتي وصلت الي18 حركة بعد أن كانت ثلاثا عند بداية التمرد عام2003 وهي: - حركة تحرير السودان جناح أركو ميناوي - حركة العدل والمساواة - حركة تحرير السودان جناح عبدالواحد نور وأصبح التفاوض معها كل علي حدة مستحيلا في الوقت الذي لا تريد معظمها أن تتوحد أو حتي تتفق معا علي رؤية تفاوضية موحدة للنقاش حولها مع الحكومة وقد وصف يان إلياسون مبعوث الأممالمتحدة السابق لدي السودان ذات يوم عملية توحيد مواقف الحركات الرافضة لاتفاق أبوجا بأنها الأصعب والأعقد في عملية السلام. وفي محاولة للخروج من هذا التفتت دعت حكومة جنوب السودان قادة الحركات المتمردة للاجتماع في جوبا لتوحيد موقفها التفاوضي قبل الدخول في مفاوضات سلام مع الحكومة في الخرطوم فوافق بعضها ورفض آخرون وتأجل المؤتمر. وردا علي سؤال لمندوب الأهرام عما اذا كان المؤتمر سينعقد في موعده الجديد يومي18 و19 يونيو الحالي قال لام أكول وزير الخارجية السودانية ونائب رئيس حكومة الجنوب نأمل أن يحضروا كلهم ويتوحد موقفهم ومع ذلك فهم أحرار.. لكني أؤكد أنه من الصعب التفاوض مع14 جماعة مسلحة في دارفور ولابد أن يدخلوا المفاوضات كفريق واحد مثلما فعل مسلحو الشرق. يبدو أن فرص نجاح مؤتمر جوبا اذا انعقد مازالت ضئيلة فكل فصيل مسلح له رؤيته الخاصة لحل النزاع وله منطقة يسيطر عليها ولا يريد أن يتخلي عنها ومعظمهم يطالب بمطالب تعجيزية مثل منصب نائب لرئيس الجمهورية لدارفور علي غرار الجنوب وهو ما يتطلب تعديل اتفاق سلام الجنوب الذي ينص علي نائبين فقط للرئيس أحدهما من الجنوب والآخر من الشمال بما فيه دارفور.. فهل الحركة الشعبية لتحرير السودان الموقعة علي اتفاق الجنوب ستوافق علي التعديل؟.. لا أظن.. فهي تخشي تعديل الاتفاق حتي لا تخسر شيئا مما اكتسبته وخاصة حق تقرير المصير لسكان الجنوب في استفتاء يجري في نهاية الفترة الانتقالية عام2011, كما يطالبون بتعويضات عن الخسائر لكل فرد في دارفور وهو أمر صعب تنفيذه وإلا لكان قد تم تنفيذه للمضارين في الجنوب أما الحكومة فتري أن التعويض جماعي ويتم تنفيذه في صورة بنية أساسية ومشروعات خدمية عامة لأهالي الإقليم وهذا من بين مطالب كثيرة جعلت حركة واحدة فقط هي حركة ميناوي توقع علي اتفاق أبوجا للسلام, بينما رفضته الحركات الأخري. واذا أردنا أن نكون أكثر تحديدا نعرض لموقفي أكبر حركتين لم توقعا علي اتفاق أبوجا: حركة تحرير السودان الكبري برئاسة محجوب حسين تطالب: - بعقد مؤتمر دولي للسلام, تشارك فيه كل القوي السياسية والعسكرية في دارفور والأحزاب الوطنية السودانية وأعضاء حكومة الوحدة الوطنية والأسرة الدولية, - بنشر قوة دولية من50 ألف جندي وتخويلهم صلاحية ملاحقة مجرمي الحرب - تجريد ميليشيا الجنجويد الموالية للحكومة من أسلحتهم وتخفيف عتاد الجيش السوداني وعدد أفراده في دارفور, - فرض حظر علي الطيران العسكري فوقه ومراقبة الطيران المدني - اقتطاع جزء من عائدات البترول السوداني ووضعه في حساب خاص تابع للأمم المتحدة لتأمين احتياجات شعب الاقليم - توقيع بروتوكول جديد لاقتسام السلطة وتوحيد ولايات دارفور الثلاث وفقا لحدود1917( وقت ضمه للسودان) - انشاء منصب حاكم واحد منتخب له وتقسيم الثروة بتخصيص ما لا يقل عن30% من الناتج القومي السوداني لدارفور -أن تتحمل خزينة الدولة تكاليف عودة النازحين وتعويضهم فردا فردا وأقل ما يقال عن معظم هذه المطالب أنها مستحيلة التحقيق وتنتهك وحدة وسلامة أراضي السودان. أما حركة العدل والمساواة, فقد أعلن رئيسها خليل إبراهيم استعدادها للتفاوض, بشرط أن يلتزم الوسطاء بتحقيق المطالب العادلة لأهل دارفور ولم يحدد هذه المطالب ولكنها وفقا لما أعلن من قبل: - تتركز في منصب نائب لرئيس الجمهورية -التعويض الفردي للمضارين -توحيد ولايات دارفور الثلاث - اعطاء أبناء الإقليم حقهم العادل في الثروة والتنمية -نزع أسلحة ميليشيا الجنجويد وتسليم المتهمين بارتكاب جرائم حرب للمحكمة الجنائية الدولية -ابعاد الصين والحركة الشعبية عن جهود التسوية ومعظمها مطالب ترفضها الخرطوم,لكن اللافت في موقفها الأخير أنها هددت بالدخول في مفاوضات منفردة مع الحكومة اذا لم تتمكن حركة تحرير السودان من توحيد فصائلها الثلاثة عشر خلال شهرين, حيث طرحت عليها الأممالمتحدة والاتحاد الإفريقي خطة طريق لحل الأزمة ترتكز علي توحيد فصائل حركة التحرير وفقا لجدول زمني لا يتجاوز يوليو المقبل تحت وساطة مشتركة, وقد رد المتحدث باسم حركة تحرير السودان عصام الحاج برفض ما وصفها بوصاية حركة العدل والمساواة علي حركته وقال إنه بإمكانها التفاوض منفردة اذا شاءت كما أن هناك من يقول إن عبدالواحد نور زعيم الفصيل الثاني من حركة تحرير السودان ليس أمامه سوي الانضمام لقافلة السلام لان موقفه أصبح ضعيفا خاصة أن أحمد إبراهيم دريج زعيم جبهة الخلاص الوطني وهي مظلة لكثير من حركات دارفور مستعد للتفاوض مع الحكومة. الحكومة السودانية أعلنت استعدادها للتفاوض بلا شروط مع حركات التمرد بعد أن توحد موقفها وتنازلت مرة بعد أخري عن شروطها وبعض مواقفها لتسهيل الأمور وفي مقدمتها نشر قوات دولية حيث وافقت علي نشر ما يتراوح بين17 و19 ألف جندي إفريقي وغير إفريقي بأسلحتهم حتي تتفادي العقوبات وتيسر استئناف عملية السلام ووفقا لما قاله لام أكول وزير الخارجية السودانية قدمت الحكومة خطة لنزع أسلحة الجنجويد في يونيو2006 ولكن تنفيذها يتوقف علي توقيع اتفاق للسلام وقال إنه يجب أولا وقف اطلاق النار وأن تدخل جميع الحركات في مفاوضات برؤية موحدة.. نقبل التعاون الدولي في حل القضية مع أنها قضية داخلية.. يجب علي المجتمع الدولي أن يركز علي بحث المرحلة الأخيرة من عملية السلام.. القضية معقدة لها جوانب يصعب تنفيذها في اتفاق نيفاشا مثل نزع الأسلحة وجوانب أخري سهلة مثل تقسيم السلطة الذي بدأ تنفيذه, واعترف أكول بوجود صراع في دارفور وألقي باللوم علي الحكومات السابقة التي اعتبرت المسلحين هناك مجرد لصوص وقطاع طرق, حتي تفاقم النزاع وأخذ أبعادا جديدة وأصبحت هناك مشكلة إنسانية تسبب للسودان انتقادات وضغوطا وتهديدات دولية متوالية. أما الضغوط وقرارات المحكمة الجنائية الدولية وتأثيرها سلبا أو إيجابا علي حل الأزمة فلها قصة أخري.