في الوقت الذي تدخل فيه أكثر الانتخابات التشريعية سخونة في تاريخنا المعاصر منعطفها الأخير, يتوالي الكثير من الأحداث علي الساحة المصرية. هذه الأحداث تعبر في الجانب الأكبر منها عن تطور ديمقراطي حقيقي وعن تغير في الثقافة السياسية يمهد الطريق لترسيخ الممارسة الديمقراطية في مصر. الغالبية العظمي من المرشحين والقوي السياسية تمارس مهامها وفق ماتقتضيه الانتخابات من ممارسات صحيحة وما تقضي به القوانين والنظم الخاصة بمباشرة الحقوق السياسية. وبرغم مايرتكبه البعض من أخطاء, فإنها أخطاء يفرضها الحماس وتقتضيها المنافسة ويمكن استيعابها والتجاوز عنها. أما علي الجانب الآخر فإن بعض القوي تمارس الكثير من التجاوزات التي تصل إلي حد الجريمة وتعبر عن حالة من العصيان والعجز عن الانصياع للنظم الديمقراطية الصحيحة. فهي بدلا من أن تصل بنشاطها السياسي المشروع إلي أقصي الحدود راحت تمارس العصيان والخروج علي النظام إلي الحد الأقصي وتسعي إلي الخروج بالانتخابات من كونها ممارسة ديمقراطية متحضرة إلي حالة من الفوضي والخروج علي النظام. لاتردعها عن أهدافها مصالح الشعب ولا أمن الأمة ولا الأهداف النبيلة التي كانت من أجلها الانتخابات. في ظل هذا الصخب السياسي كان الرئيس مبارك يبدأ زيارة بالغة الأهمية لمنطقة الخليج العربي, هذه الزيارة في هذا التوقيت لها أكثر من معني: أولا: إن دولة بحجم مصر وتأثيرها في محيطها الإقليمي لايمكن ولايصح أن تتقوقع داخل حدودها لانشغالها بانتخاباتها البرلمانية. وليس هناك بديل عن أن تكون مصر في محيطها حاضرة وفاعلة في كل الأوقات وتحت كل الظروف خاصة إذا ما كان ذلك الحضور وتلك الفاعلية مرتبطين بمصالح وطنية وقومية وإقليمية عليا. ثانيا: إنه طوال سنوات حكم الرئيس مبارك عرفنا معه طبيعته القادرة علي التعامل النشيط مع كثير من الملفات في وقت واحد. فالمصالح العليا لمصر لاتتحقق مع قضية واحدة أو ملف بعينه. ولذلك كان دائم السعي علي كل الجبهات وفي كل المجالات في وقت واحد بحثا عما يحقق لمصر ولأبنائها مصالحهم. وملف الانتخابات البرلمانية لايمكن أن يشغل الرئيس عن التحرك في اتجاهات متعددة تلوح فيها فرص تفيد منها مصر. وفيما يتعلق بالشأن الانتخابي فإن الرئيس ومنذ سنوات قد وضع المؤسسات السياسية المصرية علي طريق التفاعل وتحقيق التطور الديمقراطي. وكان لابد أن تنهض تلك المؤسسات بمهامها وتمارس دورها وهو ما يحدث الآن من جميع القوي السياسية. ثالثا: إن النتائج التي جاءت بها زيارة الرئيس مبارك إلي ثلاث من دول الخليج العربية تصب في نهاية الأمر في صالح المصريين جميعا بصرف النظر عن انتماءاتهم السياسية أو الحزبية. كان مبارك في مهمة قومية من أجل مصر تفتح آفاقا اقتصادية واسعة أمام اقتصاد مصر ومعيشة المصريين. ولذلك تحمل زيارة الرئيس وأهدافها رسالة لكل المصريين وهي أن الاختلافات بين القوي السياسية ينبغي تطول مصالح مصر وأمنها. فلم ننفق جهد السنين حتي تصبح الانتخابات وسيلة لبث الفرقة ونشر الفوضي وزعزعة الأمن. وإنما عملنا أن تكون الديمقراطية أسلوبا ييسر بلوغ أهدافنا وتحسين أساليب الحياة علي أرضنا. فحين تنهي زيارة الرئيس مبارك فتورا أصاب علاقاتنا بقطر وتفتح آفاقا واسعة أمام تعاون اقتصادي مثمر وتضخ في شرايين الاقتصاد المصري بلايين الدولارات تأتي من قطر ومن الإمارات. وحين تفتح تلك الزيارة أبواب العمل لعشرات الألوف من المصريين في أسواق الدولتين وتسهم في تحسين ظروف معيشة المصريين العاملين في الدولتين, فإنها في النهاية منافع لمصر ولأبنائها جميعا حتي أولئك الذين يحاولون نشر الفوضي والاضطراب بدعوي الانتخابات. تلك هي الرسالة التي تحملها زيارة الرئيس للخليج هذه الأيام. رابعا: إن ارتباط الأمن القومي المصري بأمن دول الخليج العربية حقيقة لا تقبل التشكيك ولاتقبل التهاون. وحين يصل الرئيس مبارك في هذه الأيام إلي منطقة الخليج فهو يحمل رسالة لكل القوي التي تتربص بأمن الخليج في وقت تتصاعد فيه التهديدات وتظهر علامات التآمر من تلك القوي في لبنان وفلسطين واليمن. وهي رسالة قادرة علي ردع طموحات المتآمرين الطامعين في ثروات الخليج. وعروبة الخليج قضية حياة بالنسبة لمصر ولايمكن أن تقف مصر صامتة إزاء المؤامرات التي تريد ابتلاع المنطقة وتذويبها في الهوية الفارسية. خامسا: إن دول الخليج تشارك مصر اهتمامها ومساعيها لاحتواء الكثير من القضايا الحيوية في المنطقة وهو أمر يدعو إلي التشاور وتوحيد المواقف بشأن ما يجري في السودان والصومال واليمن وفلسطين ولبنان وغيرها. وهي مشاورات تفرضها تطورات الأحداث الراهنة في هذا التوقيت. وحينما غادرت طائرة الرئيس منطقة الخليج في طريق العودة إلي مصر بعد زيارة ناجحة بكل المعايير الرسمية والشعبية, فإن واقعا يتغير إلي الأفضل بفعل النتائج الكبيرة التي انتهت إليها الزيارة. فوائض الأموال في دول الخليج تجد اليوم لها منافذ أوسع إلي الاقتصاد المصري. أموال لن تأتي وحدها وإنما تأتي معها كبريات الشركات العالمية بخبراتها وقدراتها التكنولوجية العالية. وهي استثمارات نحتاجها لتنفيذ البرامج الطموحة التي وضعها الرئيس للمرحلة المقبلة. فعلينا أن نعترف بأن مواردنا الذاتية وحدها لن تكفي طموحاتنا ونحتاج إلي البحث عن موارد إضافية من الاستثمارات الخارجية.وعلينا أن نوفر المناخ الملائم, لذلك فرأس المال يذهب حيث يوجد المناخ الملائم ويبقي حيث يعامل معاملة جيدة. وعلي الصعيد المحلي يخوض المصريون غمار معركة تعبر عن إرادة شعب تجاه مصالح بلاده. بعد أقل من ثمان وأربعين ساعة تبدأ عمليات التصويت في الانتخابات لتضع نهاية لنشاط سياسي هائل بذلته القوي السياسية لفترة طويلة. وكنا نتمني أن يتصدر المشهد الانتخابي الراهن منافسات تتسم بالنزاهة واحترام النظم والقوانين والعمل من أجل الغاية التي نرجو أن نبلغها بالانتخابات. غير أن المشهد الانتخابي اليوم تتصدره أعمال عنف ومحاولات مستميتة لنشر الفوضي وانعدام النظام والتشكيك في العملية الانتخابية برمتها, والخصومة التي لا تضع اعتبارا لقيمة أو شرف أو أمانة, والاستماتة في الدفاع عن وجود مراقبين دوليين للانتخابات بصرف النظر عن مكانة مصر وقدرتها علي إدارة العملية الانتخابية بالقدر اللازم من النزاهة. في مقدمة أولئك الذين يتحملون مسئولية تلك الظواهر المقيتة في الشارع المصري يأتي المتسترون وراء الدين والمتمسكون حتي الموت بشعار أصبح الجميع يدركون النيات الخبيثة التي تختفي وراءه. اختزل هؤلاء وجودهم في شعار يتوهمون أنهم بذلك الشعار قادرون علي تسويق الوهم بين الناس. استخدموا دور العبادة في دعايتهم. خالفوا كل شيء واستباحوا من أجل أغراضهم أي شيء. هم يعلمون وزنهم في الشارع السياسي المصري الآن, ولكنهم يتمسكون بكل مخالفة يصرخون بها حتي يسمع الناس أصواتهم. يشكون عزلتهم والتضييق عليهم وهم الذين عزلوا أنفسهم وضيقوا علي مكانتهم بما فعلوا وبما يفعلون. هؤلاء الذين ينتمون لجماعة محظورة بالقانون لا يصرفهم عن أوهام الوصول إلي السلطة شيء حتي إذا بلغوها أقاموا دولة الفقيه وحرموا الجميع من التعبير عن أي رأي يخالف أمراءهم. المصريون يعلمون أنهم الخطر الأكبر علي حياتهم السياسية والثقافية والاجتماعية بل والاقتصادية. ومصر ليست حقل تجارب لمثل هؤلاء الذين أدخلوا التشدد والعنف إلي حياة المصريين. وراء هؤلاء النفر تاريخ طويل من العنف والتشدد والتآمر والانغلاق الذي كان جديرا بأن يعيد مصر إلي عصور الظلام. يدخلون اليوم حلبة المنافسة الديمقراطية تحت عباءة المستقلين وهم ليسوا أبدا كذلك. محاولة للالتفاف علي الدستور والقانون ولكنهم منتظمون في جماعة يأتمرون بأمر قادتها ويخضعون لتوجيهات مجالسها العليا. ويعلنون عن ذلك صراحة في منتدياتهم وتجمعاتهم ومواقعهم الإلكترونية. وإذا كان الحزب الوطني قد تقدم ببلاغ إلي النائب العام للكشف عن هذه الألاعيب السياسية, فإن القضية لم ولن تكون أبدا قضية الحزب الوطني وحده وإنما هي قضية مصر بجميع أحزابها لتنقية مسيرتنا من خطيئة كبري أن نمنع ونسمح, أن ننادي بالدولة المدنية والمواطنة ونسمح للبعض بانتهاك كل ذلك. فبلاغ الحزب الوطني ليس تعبيرا عن مخاوف حزب من خسارة مقعد هنا أو آخر هناك, فليس لحزب وصل عدد أعضائه إلي ثلاثة ملايين عضو أن يخشي هذه الجماعة المعزولة المرفوضة.وإنما هي مخاوف عامة علي مستقبل الحياة السياسية أن يستمر هذا التناقض الذي يصل إلي حد العبث السياسي. فهم يتربصون بكل شيء في أرض مصر. يريدون صياغة حياة المصريين كما يريدون. كل من يخالفهم الرأي خارج عنهم وعن الدين الذي يتسترون به ويخفون وراءه نيات خبيثة أصبح المصريون علي وعي بها. هم أكثر الناس استثمارا للفقر في مصر, يستنفرون غضب الفقراء ولايقدمون لهم شيئا سوي أكياس اللحوم وبعض الأموال في المناسبات ثمنا لأصواتهم. تجارة خائبة ومحاولات مفضوحة. لقد جلس منهم في مقاعد البرلمان السابق ثمانية وثمانون عضوا. دخلوا تحت شعار الإسلام هو الحل. فماذا فعلوا وماذا أنجزوا؟ تربصوا بكل مبدع وأهالوا التراب علي كل مجتهد وزايدوا علي كل شيء وعارضوا كثيرا وعيونهم علي الشارع من أجل الوجاهة السياسية. لم يعد شعارهم قابلا للنقاش, فقد بات معروفا للجميع حقيقة ما يخفي, ولكنهم مصرون عليه حجرا في طريق التحول الديمقراطي. فلا القانون ولا الدستور أصبح مقنعا لهم. احتكموا إلي أعمال البلطجة وفرض الشعار علي الجميع بالقوة. فأي ديمقراطية نرجوها من هؤلاء؟ وأي مستقبل ينتظر بلدا تولوا أمره؟!. لقد أصبحت تلك الجماعة المرفوضة والمحظورة هي آفة الحياة السياسية المصرية المعاصرة وحجر عثرة في طريق بناء دولة مدنية حديثة تقوم علي المواطنة والمساواة بين أبناء الوطن الواحد. وسلوك البلطجة واختراق القانون الذي تصر عليه تلك الجماعة شجع غيرهم أيضا علي محاولة فرض ما يريدون وممارسة سياسات لي الأذرع. فهم خاطئ وشائعات تسري كانت كفيلة بتعكير صفو الأمن والنظام في محافظة الجيزة أفسحت المجال للمتربصين بوحدة مصر وتماسكها. فالمطالب الخاصة ببناء كنيسة أو ملحق لها لن تجد طريقها للتنفيذ بالتظاهر والعنف وكيل الاتهامات للمسئولين بعيدا عن الحقيقة. كما أن التظاهر والاحتجاج أمام مجمع المحاكم في طنطا وتعكير الأمن لن يكون وسيلة مشروعة للحصول علي توكيلات خاصة بمندوبي مرشحي الجماعة المحظورة. في الحالتين لايمكن التضحية بالأمن والاستقرار في مقابل مصالح فئوية مهما تكن. ولكن الحقيقة التي ينبغي تداركها هي أن التطرف يغذي التطرف والخروج علي القانون يغري الآخرين بذلك. نحن مقبلون علي معركة انتخابية نعلم أهميتها للمرحلة المقبلة, حيث انتخابات رئاسة الجمهورية علي الأبواب, وحيث نرجو أن تسفر الانتخابات عن مجلس يستجيب لمطالب التغيير المنظم واستكمال بناء الدولة المصرية العصرية. مهمة ينهض بها الاختيار الواعي للناخبين وتجاوز ألاعيب المرجفين والوعود الكاذبة. وهي أيضا مهمة الجميع أن ننأي بذلك الحدث عن العنف الذي يصاحب الكثير من الانتخابات حيث تحل العصبية أو الفئوية محل الوطن الذي نعيش علي أرضه جميعا. * نقلا عن صحيفة الاهرام المصرية