المشهد السياسى المصرى يزداد سخونة كلما اقتربت الاستحقاقات الديمقراطية بالانتخابات التشريعية هذا العام والانتخابات الرئاسية العام المقبل، هذه السخونة المتزايدة ناتج طبيعى لفلسفة الديمقراطية متى وجدت وأينما حلت. وإذا كانت الديمقراطية تمثل إطارا لصراع متصالح بين القوي والتيارات السياسية ومجالا للمنافسة بينها, فإن الانتخابات تمثل أشد حلقات العمل الديمقراطي, سخونة باعتبارها المرحلة النهائية لإفراز القوة السياسية التي تتولي توجيه مجريات الأحداث في المجتمع لفترة تحددها القوانين والدساتير المعمول بها. وما يحدث في مصر الآن لايخرج في كثير أو قليل عن هذا المنطق الذي يحكم العملية الديمقراطية برمتها. غير أن الحالة المصرية تتميز عن غيرها ببعض الممارسات التي تكتسب أهمية خاصة في سياق الأوضاع بمصر: أولا: إن جزءا من الصراع بين القوي المختلفة, التي تخوض المعترك السياسي, ليس متصالحا بالقدر الذي يحفظ المصالح العليا للمجتمع. فالوصول إلي البرلمان أو المنصب الرئاسي أصبح لدي البعض غاية نهائية وهدفا لذاته. وليس من المهم أن يكون الطريق إلي تلك الغاية مهددا أو حتي مدمرا للمصالح العليا للوطن. فليس لدي البعض مانع من استعداء القوي الخارجية علي مصر, بل السماح لها باختراق السيادة المصرية في شأن من شئونها. وليس لدي هؤلاء ما يمنع من أن يتحول صراع الديمقراطية إلي صراع فئوي أو حتي طبقي تشيع معه الفوضي, وتختلط فيه الأوراق, وتضيع فيه مصالح المصريين. وهي تسعي بقصد أو دون قصد لتقويض الثقة في مؤسسات الدولة, ونشر الضباب حول مستقبل الأجيال المقبلة. ثانيا: التناقض الواضح لدي بعض القوي بين مستوي الحركة السياسية في العمل الديمقراطي ومستويات الوعي بمغزي هذا الحراك, فالقوي السياسية المعارضة تذهب في حركتها السياسية إلي أبعد مدي, ولاتريد لحركتها حدودا, ولكنها في الوقت نفسه تري ذلك التفاعل السياسي في المجتمع تعبيرا عن فوضي, ومقدمات لثورة شعبية ضد الوضع القائم في مصر, بل إن تلك القوي دائمة التأكيد في خطابها السياسي الخارجي أن ثورة شعبية تكاد تندلع في مصر, وتلوح بهذا التهديد أحيانا في خطابها السياسي الداخلي, وعلي الرغم من أن وسائل الإعلام ومراكز البحث في الخارج معنية بشئون قوة إقليمية لها تأثيرها وهي مصر, فإنها كثيرا ما تقع في شرك الخطاب السياسي المعارض المثير للغبار في سماء الحياة السياسية المصرية, وقد راحت تلك الوسائل والمراكز تردد دعاوي ثورة المصريين. وحينما لم تأت الثورة كما يتوقعون راحوا يكيلون الاتهامات لهذا الشعب بالخمول السياسي وعدم الاكتراث, ولم يعترف أي من هؤلاء بحقيقة أن الذي يجري في مصر هو تفاعل سياسي صحي ونشيط لمجتمع جاءته فرصة التحول الديمقراطي بعد سنوات طويلة من الحرمان, وأنه يخوض معركة فرز القوي السياسية الحقيقية التي سوف تتصدر مشهد التحولات الديمقراطية, وتنجز تجربة ديمقراطية حقيقية في مصر وهذا الفرز السياسي هو الذي يكشف في نهاية الأمر عن القوة الحقيقية للتيارات السياسية القائمة التي تكتفي حتي الآن بالعمل عبر صحف محلية أنشأتها أو وسائل إعلام أجنبية معنية, بغير تمحيص, بحقيقة الأوضاع في أهم دول المنطقة. ثالثا: إنه مما يميز الحالة المصرية أيضا كثرة الأوصياء علي التحولات الديمقراطية, هؤلاء الذين يريدون لنا جميعا أحزابا وتيارات وناخبين أن نتبع نصائحهم, ونعمل بكل ما يشيرون به. فالخروج علي نصائحهم خروج علي الديمقراطية وكفران بأنعمها. وفي سبيل تحقيق أهدافهم ساد التحريض خطابهم, تحريض الناخبين علي مقاطعة الانتخابات, وتحريض المرشحين علي الانسحاب, وتحريض الأحزاب أيضا علي عدم المشاركة, وتحريض مستمر ضد كل قلم أو رأي يري أن الكثير من الإيجابيات تحققت وتتحقق كل يوم علي أرض مصر, ثم حديث طويل عن الفوضي السياسية المزعومة وشكوي مستمرة من العزوف عن المشاركة في شئون السياسة. الديمقراطية منذ أن وجدت لاتقبل الوصاية علي إرادة أمة, بل إنها ظهرت لتقويض الوصاية التي جاء بها الفكر السلطوي الذي يري الشعب قاصرا, وأن الحكمة تسكن فقط عقول قلة قليلة, لها الحق في توجيه الجميع إلي حيث يريدون. من صوامع الأوصياء خرجت الدعوات تنكر علي الأحزاب السياسية المشاركة في الانتخابات المقبلة, وتنكر ذلك أيضا علي مرشحين آخرين. يريدون من صوامعهم صياغة مستقبل البلاد, وتوزيع الأدوار ليستمر النعيق في الخرائب التي يريدونها. رابعا: تسيطر علي القوي السياسية المعارضة روح الانتقام, وليس المنافسة مع الحزب الحاكم. فالأعوام التي مضت لم تشهد عندهم إنجازا واحدا, ولم تتراجع مشكلة واحدة من مشكلات المجتمع المصري, وهذا يمثل افتئاتا, ليس علي الحزب الحاكم وحده, وإنما علي المصريين أنفسهم الذين كانوا شركاء في آلاف الإنجازات التي تحققت علي أرض مصر.. وهذه النغمة السائدة قد تؤدي إلي فقدان ثقة المواطن بالجميع, وهي خطيئة تهدد التحول الديمقراطي في مصر. اليوم نستهل أول أيام شهر أكتوبر, الذي يعيد إلي الذاكرة في معترك الأحداث الانتخابية, مشاهد المجد الكبير في تاريخ مصر الحديث انتصار أكتوبر1973, وهو حدث جليل يعبر عن إرادة أمة حين انتظمت وراء هدف واحد, ولم يكن انتصار أكتوبر صنيعة القادة والسياسيين وحدهم, ولكنه جاء بالوحدة التي جمعت تحت لوائها الأمة المصرية بمختلف طوائفها, وسوف تظل انتصارات أكتوبر مرجعية كبري في مواجهة التحديات العظمي. وهي مرجعية نحتاجها الآن حتي نحقق التحول الديمقراطي, ونحدد في ثقة مستقبل الحياة في هذا البلد. نحن في معركتنا الراهنة نحتاج إلي الاختلاف بقدر ما نحتاج إلي الاتفاق, فاختلاف الآراء والأفكار تعبير عن الثراء والغني في الاختيار والبدائل المتاحة, والاختلاف أيضا ضمانة أكيدة للاختيار الصحيح, غير أن الاختلاف الذي نعيشه الآن لايقوم في غالب الأوضاع علي حقائق ثابتة ورؤية متعمقة لما تجري به الأحداث, ولايقف عند حدود مقدسات المجتمع لحمايتها, فالحرية لاتعني هدم الأسس التي تقوم عليها المجتمعات وإثارة الفتنة بين طوائفه. إن ماحدث في شأن مشروع مدينتي, وما وقع من ملاسنات تمس مشاعر المسلمين والمسيحيين, يعبران في وضوح عن الخطأ في الاختلاف والتجاوز في التعبير عن الآراء, فحكم المحكمة ببطلان عقد أرض مشروع مدينتي تحول إلي إدانة لبعض مؤسسات الدولة, وتشكيك في كفاءتها ونزاهتها في بعض الأحيان. وأصبح الحكم مجالا خصبا استثمره البعض في تضخيم قضايا الفساد بهدف التشكيك في كل شيء. فقضية مدينتي تعكس مشكلة نحن بحاجة إلي مواجهتها حتي نتجنب مشكلات أكبر من مشكلة هذا المشروع, لدينا مشكلات تشريعية يتعين مواجهتها. التراكم التشريعي في مصر هائل, وأحيانا ما تصدر تشريعات جديدة مناقضة لأخري قائمة, والذي حدث هو أن أرض المدينة تم تخصيصها وفق قانون الهيئة المعنية بالتصرف في جزء من أرض الدولة, غير أن هذا القانون مخالف لقانون آخر يتعلق بالمزايدات والمناقصات, وبدلا من أن نضع أيدينا علي جوهر المشكلة والمطالبة بإيجاد حل لها, نصب آخرون محاكمة أخري أمام الرأي العام هذه المرة لإدانة الجميع بدعاوي الفساد, ولم يعترف أي منهم حتي بأن الأخطاء واردة في كل عمل, ولكن النيات ملتوية وقطاعات من الرأي العام مهيأة لقبول دعاوي الفساد من كثرة الحديث عن قضاياه. والنتيجة أنه بدلا من مواجهة التناقضات التشريعية انقض الهجوم علي ما تحقق من تنمية عمرانية هائلة في مصر, باعتبارها من نواتج الفساد, وأراد البعض بحكم المحكمة إهالة التراب علي التوسع العمراني الذي اقتطع مساحات من الصحاري المحيطة بنا لكي يحولها إلي سكن وزراعة وعمران, تخفف الضغط الرهيب علي الوادي والدلتا. وحينما تدخل مجلس الوزراء لحل مشكلات المترتبة علي حكم المحكمة لحماية مصالح مئات الألوف من المصريين المشترين والعاملين في هذا المشروع العملاق لم ينج من الاتهامات والنقد أيضا. التناقضات التشريعية تفتح الباب واسعا أمام الشغب والعبث من راغبي الشهرة ومدمني الإثارة, وهو باب لابد من إغلاقه, لأن الخسائر باهظة اقتصاديا واجتماعيا. وإغلاق هذا الباب مرتبط بشدة بالانتخابات التشريعية المقبلة, فالبرلمان هو المسئول الأول عن تلك المواجهة. ولن يستطيع البرلمان إنجاز تلك المهمة الكبري بغير كفاءة أعضائه وقدرتهم علي فهم متعمق لمشكلات المجتمع, ووصول هذه النوعية من النواب إلي البرلمان هو مسئولية الناخبين في المقام الأول. نحن نريد للبرلمان المقبل حيث تنتظره مهام تشريعية ورقابية كبيرة أعضاء لديهم القدرة علي تغيير بعض السلبيات التي علقت بأذهان المصريين عن مجلس الشعب وأعضائه, أعضاء يعملون علي أسس قادرة علي استجلاء جوانب المشكلات وفهمها, والبحث في أنجع وسائل مواجهتها, أعضاء لايرون في عضوية البرلمان وجاهة أو نفوذا, يعين علي تحقيق مصالح شخصية أو فئوية, أعضاء لايستندون إلي دعم قبلي أو عشائري, ولايتسترون بدعاوي دينية أو شعارات تغرر بالناخبين وتخدعهم, وبهذه النوعية من الأعضاء يمكن للبرلمان المقبل أن ينجز المهام الكبيرة التي تنتظره. أما الملاسنات التي انتهكت مقدسات الوطن بإثارة غضب أبنائه المسلمين والمسيحيين فهي ملاسنات تعبر عن خطيئة في فهم حرية التعبير, باعتبارها ضرورة من ضرورات العمل الديمقراطي, فلكل مجتمع كما كتبت من قبل حرماته ومقدساته التي لايمكن المساس بها تحت أي دعوي أو أي شعار. ومقدسات أي مجتمع لاينبغي أن تحميها فقط التشريعات والقوانين, ولكنها محمية بالضمير الوطني قبل أي حماية من أي مصدر آخر. وما حدث لايكشف عن جريمة الشطط في حرية التعبير فقط, ولكنه يكشف أيضا عن نقص في فهم حرمات المجتمع ومقدساته والوعي بهما. وللأسف فقد جاءت تلك الخطيئة من شخصيات هي محل التقدير والاحترام بالعلم الذي تحمله والحصافة التي تتميز بها. لقد أثبت المجتمع المصري قدرته وصلابته في مواجهة مثل هذه الفتن, ولكن الرهان علي صلابة المجتمع وقدرته علي المواجهة ليس خيارا آمنا في كل الحالات, ولابد من اتخاذ كل التدابير التي ترسخ في الوجدان المصري العام حقيقة المقدسات التي تتوقف عندها ممارسات حرية الرأي والتعبير, حفاظا علي أمن وسلامة الجميع, ولابد أن تتطرق تلك التدابير إلي تحديد علاقة وسائل الإعلام بتلك المساحة من المقدسات والنأي بها عن أن تكون مادة لبرامج الحوار الباحثة عن الإثارة والفتنة معا. لقد تعددت الأخطاء في الآونة الأخيرة من وسائل الإعلام والأفراد معا, وآن الأوان لوضع حد لتلك الممارسات التي يمكن أن تهدد المجتمع وفي المقدمة منهم الذين صانوا مقدساته وحرماته, فالفتنة حين تثور لاتصيب الذين ظلموا وحدهم في كل الأحوال. نحن نخوض انتخابات لها أهميتها الكبري في حياتنا السياسية, فهي تجري في ظل تغيرات اقتصادية وسياسية غير مسبوقة في تاريخنا. وتنتظر البرلمان المقبل مهام هي الأخطر والأكثر تأثيرا في المستقبل المنظور. وبقدر ما تتسم به الانتخابات المقبلة من وعي وقدرة علي الفرز الصحيح سوف نكون قادرين علي إنجاز الكثير من المهام الكبري في السنوات المقبلة. * نقلا عن صحيفة الاهرام المصرية