إذا أراد العالم العربي أن يجتاز مرحلة التخلف ويدخل القرن الحادي والعشرين, فعليه أن يدخله من البوابة الصحيحة, لقد فقدنا فرصة مشاركة العالم في الثورة الصناعية, ثم فقدنا فرصة المشاركة في الثورة التكنولوجية. ولن يغفر لنا التاريخ إذا فقدنا الفرصة الأخيرة للحاق بالعصر بالمشاركة في ثورة الإنتاج الذي يعتمد على قوة المعرفة, ولن يتحقق ذلك إلا بإعداد الإنسان المؤهل لذلك وإعداده منذ الطفولة المبكرة وليس بعد ذلك. هذه كانت خلاصة المحاضرة التي ألقاها الدكتور حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم الأسبق ورئيس الجمعية المصرية والعربية لطب الأطفال,وطرح فيها مدخلا جديدا لبناء الإنسان المصري والعربي أثبت فيه بناء على تقارير البنك الدولي ونتائج الدراسات العلمية الحديثة أن العائد من مشروع تنمية الطفولة المبكرة في الولاياتالمتحدة يزيد على أربعة أضعاف العائد من مشروعات الزراعة والصناعة والري في الدول النامية, مما يدل على أن الاستثمار في رعاية وتعليم الأطفال في مرحلة العمر المبكرة هو الاستثمار الأمثل الذي يستحق أن تخصص له الدولة الجزء الأكبر من ميزانيتها وتضعه في موضعه الصحيح باعتبار رعاية وتعليم الطفولة المبكرة قضية أمن قومي وتتعلق بالتوزيع الاستراتيجي للموارد, ولأنها ليست فقط خدمة ولكنها ذات جدوى اقتصادية ولها عائد اقتصادي وسياسي واجتماعي وثقافي والأساس الذي لا غنى عنه لبناء قوة الدولة. ولن يتحقق ذلك في ظل السياسات القائمة الآن, ولكن يحتاج الأمر إلى تحول في الفكر السياسي العربي لإدراك ما يجري في العالم.. الثورة في المعرفة.. العائد الكبير جدا من الإنتاج كثيف المعرفة, إنتاج الأفكار والبرامج أصبح أكثر أهمية استراتيجية من إنتاج السلع والأجهزة والمعدات التقليدية.. باختصار قوة المعرفة في هذا القرن الحادي والعشرين هي الميزة التنافسية الحاسمة وتنمية قوة المعرفة هي الاستثمار الذي يحقق أكبر عائد, لأن التنمية المضافة لأي منتج أصبحت تتناسب مع قيمة المعرفة في هذا المنتج, وعلى سبيل المثال فإن منتجات الأقمار الصناعية وصناعة الفضاء تحقق20 ألف ضعف الأموال التي تنفق فيها, وإنتاج طائرات القتال يحقق2500 ضعف, والحاسبات العملاقة تحقق1700 ضعف, وصناعة الطائرات تحقق900 ضعف, وكاميرات الفيديو تحقق280 ضعفا, أما إنتاج عربات الركوب مثلا فإنه يحقق عشرة أضعاف الأموال التي تنفق لإنتاجها, ومعنى ذلك أن قوة العقل وقوة المعرفة وقوة العلم هي قوة الدولة وقوة الاقتصاد.. ولذلك تخصص الدول المتقدمة الجزء الأكبر من ميزانياتها للتعليم. وقد تنبهت إلى ذلك بعض الدول النامية فحققت تقدما اقتصاديا كبيرا مثل ماليزيا, وسنغافورة, وكوريا الجنوبية, وكانت البداية رعاية وتعليما منذ الطفولة المبكرة وليس في مرحلة التعليم الجامعي وبعد الجامعي كما في العالم العربي وقد اختصرت هذه الدول مدة التقدم بما يقدره الخبراء بعشرين عاما عندما اعتمدت سياسة تعليم متميزة ومستمرة وبناء قوى عاملة عالية المستوى تمتاز بقوة المعرفة. ويريد الدكتور حسين كامل بهاء الدين أن يدق أجراس التنبيه إلى أن هناك فترات حساسة يمكن للطفل أن يتعلم فيها ويتقن مهارة معينة, وعندما تنقضي هذه الفترة يصبح من الصعب وربما من المستحيل استعادة هذا الاستعداد مرة أخرى, وهذا ما يطلق عليه الدكتور حسين كامل بهاء الدين نوافذ المعرفة التي تفتح في سن مبكرة وتغلق بعد سن السادسة أو السابعة يفقد الطفل بعدها الاستعداد لاكتساب هذه القدرات والمهارات, ويعدد الدكتور حسين12 نافذة منها نافذة المهارات الحركية الدقيقة, ونافذة الذكاء اللغوي, ونافذة الذكاء الرياضي, ونافذة الذكاء المنطقي, وهكذا. والجديد في نظريات التعلم والتعليم التي يؤمن بها الدكتور بهاء الدين أن المعرفة لا تعتمد على العقل وحده كما كنا نتصور, ولكن أثبتت الدراسات العلمية أن القلب أيضا له دور في التعلم, وأنه أهم وأشمل من أن يكون مجرد مضخة, بعد أن ثبت أن القلب غدة هرمونية تفرز هرمونات تؤثر في قوة المعرفة, وفيه شبكة عصبية جوهرية تؤهله ليكون ادماغا قلبياب يمكنه التعلم والتذكر واتخاذ قرارات مستقلة عن الدماغ, وأن االمعرفة عملية مركبة مكونة من عدة عناصر وتعتمد على أعضاء في الإنسان أهمها المخ, والقلب والذاكرة, وتنميتها تتوقف على مدى الاستفادة. إن التهديد الحقيقي لعملية التنمية هو كثرة الفاقد من القدرات والقوى العقلية التي يفقدها المجتمع نتيجة عدم الانتباه إلى الأهمية الحقيقية لرعاية الطفولة المبكرة. وإذا كنا نريد حقا بناء الإنسان من البداية الحقيقية لذلك في الطفولة المبكرة فلابد أن ندرك أن ذلك يقتضي إعداد استراتيجية علمية متكاملة.. وهذا يعني إحداث ثورة في مفاهيم التربية وفي أساليب التعليم ولو تحقق ذلك فسوف يدخل المصريون والعرب القرن الحادي والعشرين متأخرين قليلا ولكن لن يفوتهم القطار على أي حال. نقلاً عن صحيفة الأهرام المصرية