يعتقد الكثيرون أن قيام الأمم ورسوخها وتقدمها وصلاح أحوالها وأحوال أبنائها إنما يتحقق إذا صلح حكامها، أو من يتولون أزمة ومقاليد الحكم فيها، وهذا - للأسف - ما زرعه أعداؤنا في قلوبنا وعقولنا ماضيا وحاضرا وربما مستقبلا، فالحقيقة أن قيام أي أمة من كبوتها إنما يبدأ من القاع، من فرط إحساس الناس في المجتمع بالحاجة إلي النهوض بحياتهم وإنهاء معاناتهم، بالدعوة إلي التغيير، ولنضرب علي ذلك مثالا؛ إن بناء العقارات يتشابه في بعض جوانبه مع بناء المجتمعات، فالعقار لا يمكن أن يبدأ بناؤه من أعلاه، بل لا بد أن يُبدأ بوضع الأساسات من الأسفل حتي يكون بناء راسخا متينا سليم البنيان، وإلا فإن البناء سينهار علي رءوس ساكنيه، مهما كان مظهره الخارجي جميلا ومنمقا، وهذا ينطبق تماما علي بناء المجتمعات، فالمجتمع الذي تتوافر في تأسيسه شروط السلامة يكون صالح البنيان، وتكون أخلاق أبنائه هي الأساس الراسخ الذي يصبح قاعدة صلبة لبنائه، من التقوي والصلاح والإيمان وحب الخير. فالمجتمع الذي يتعرض أبناؤه من أبنائه للأذي، وينتشر فيه الغش والسرقة والتطفيف والجشع والرشوة بأسمائها المختلفة، ولا يأمن فيه المرء علي نفسه أو ماله أو أبنائه أو مستقبله، هو مجتمع هش، بناؤه قابل للانهيار في أي لحظة مع أول زلزال، إذ إنه لم يؤسس علي الأخلاق، ولم تعل أدواره وطبقاته علي أساس من التقوي. إذن.. فالبناء السليم يبدأ من الأسفل لا من الأعلي، صحيح أن أعلي المبني مهم، فتتوافق الطوابق مع القواعد ليضمن ثبات المبني، ولكن الأساس هو الأساس، وكلنا يعرف حكاية عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حين كان يعس بين الناس يتفقد أحوال الرعية، فسمع من خلف أحد الأخبية أمًا تحرض ابنتها علي أن تغش الحليب بالماء، فعمر لايراها، وكان عمر قد نهي عن غش الحليب بخلطه بالماء، فكانت إجابة الفتاة علي أمها أبلغ من أي رد: ولكن رب عمر يرانا، ولم تكن تدرك أن عمر يسمع تحاورها مع أمها، فهي لا تخاف عمرا، ولكنها تخاف رب عمر، فاتخذها عمر زوجة لابنه. وهنا نتذكر قول الله عز وجل: (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَي تَقْوَي مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَيَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) التوبة 109، يقول المفسرون في تفسير هذه الآية: (فلنقف ولنتطلع لحظة إلي بناء التقوي الراسي الراسخ المطمئن، ثم لنتطلع بعد إلي الجانب الآخر لنشهد الحركة السريعة في بناء الضرار - كما هو حالنا الآن - إنه قائم علي حافة جرف منهار، قائم علي تربة مخلخلة مستعدة للانهيار، إننا نبصره اللحظة يتأرجح ويتزحلق وينزلق، إنه ينهار وينزلق، إنه يهوي إن الهوة تلتهمه وتبتلعه.. إن قول الله عز وجل هذا ينطبق علي أحوالنا في وقتنا الحاضر، لأن البنيان الأجوف الخالي من الأسس السليمة المتينة التي تحميه من الوقوع، حتي إن كان أعلاه خال من العيوب؛ فالوقوع محتّم، وإن اقترن فساد الرأس مع فساد الجسد؛ فسقوط البناء حتما سيكون أسرع، والخسائر أكبر وأفدح، كما يحدث في أيامنا هذه.. واستنادا إلي قول الله عز وجل؛ يصبح التفكير أن سبب انهيار أي الأمة هو فقط بسبب فساد رأسها هو قول مغلوط، لأن الرأس إن كان سليمًا والجسد فاسدًا؛ فالبناء كله فاسد، ولكن العكس غير صحيح، والقرآن الكريم ينير لنا الطريق الذي إن مشينا فيه أفلحنا ونجحنا في تأسيس مجتمعنا علي أسس سليمة؛ علي التقوي والإيمان والعمل علي تغيير المفاهيم التي سادت زمنا طويلا، أنه لن تقوم لنا قائمة إلا إذا تغير الحاكم أو تغير الدستور، إن حالنا لن يتغير فعلا إلا إذا بدأنا ببناء البنيان كما أمرنا الله عز وجل علي أسس متينة من التقوي، وبالرجوع إلي قيمنا ومبادئنا وديننا، وخوفنا من الله والبداية ليست صعبة أو مستحيلة، وربما تأخرت ثمار هذا البناء بعض الشيء؛ ولكنها ستظهر يانعة مثمرة في أبنائنا وأحفادنا بإذن الله، والله من وراء القصد..