ليس رئيسا لكل المصريين، بل مجرد عضو في جماعة الإخوان المسلمين لا يرى إلا ما يراه رفاقه في التنظيم ولا يصدّق إلا يقوله مكتب الإرشاد، وليست الثورة والشرعية والتطهير والفلول والمؤامرة والتمويل الداخلي والخارجي وغيرها إلا كلمات وشعارات تروح وتجيء وجلبابا يتم ارتداؤه عند الحاجة إليه وخلعه حين يتغير الموقف.. هكذا أكد الرئيس محمد مرسي في خطابه ليل الخميس الماضي، حين اختزل المأساة وحمّام الدم المسال على أسوار وأبواب قصره الرئاسي قبلها بيوم واحد في أن ذلك إنما تم دفاعا عن الشرعية التي هو نفسه حدّد مظاهر تهديدها -وهو في قمة انفعاله وغضبه- بإصابة سائق سيارة من سيارات الرئاسة وقيام المعارضين لإعلانه الديكتاتوري ولدستور جماعته بسدّ الشارع!
لا أدري ماذا حدث في الجمعة التالية لخميس الخطاب الانفعالي المتوتر الذي لم يتراجع فيه مرسي "قيد أنملة" عن عناده، بل أظهر أكثر وأكثر وجهه الإخواني الذي اعتقد الكثيرون متفائلين أنه سيخلعه على باب قصر الرئاسة، أو على الأقل سيرتدي قناع الرئيس الذي يحكم كل المصريين، كما وعد مرارا وتكرارا خلال مرحلة الدعاية للانتخابات الرئاسية، ولكن هيهات، فالرئيس المنتخب من الشعب المصري مستعينا بأصوات الملايين من عاصري الليمون والفائز بأغلبية تكاد لا تذكر، نسي كل وعوده، وفاجأنا في خطابه الأخير بأنه يكاد يقرأ بيان جماعة الإخوان المسلمين الصادر قبل خطابه بساعات قليلة، يُردد الأرقام نفسها عن الشهداء والمصابين المخالفة حتى لتقرير وزارة الصحة التي تأتمر بأمره، بل ويُردد كل ادعاءات جماعة الإخوان وقياداتها عن مؤامرة داخلية وخارجية "دُبّرت بليل" لاقتحام القصر الرئاسي والانقلاب على الشرعية إلى آخر هذه الأحاديث المرسلة التي طالما صدّع نظام مبارك وخلفاؤه من أعضاء المجلس العسكري رؤوسنا بها عن المعارضين والتي لم يثبت أي منها في يوم من الأيام.
رجل الدولة الأول رأيناه يتحدث عن قبض على أشخاص وعن اعترافات في تحقيقات وتمويلات داخلية وخارجية وغيرها من المصطلحات المرعبة التي يبدو أنه استقاها من أعضاء الجماعة لأن تحقيقات النيابة لم تكن قد بدأت بالفعل، بينما رأينا أعضاء الجماعة في عديد من الفيديوهات -التي أعتقد أن مؤسسة الرئاسة يمكنها الوصول إليها بسهولة على موقع "يوتيوب"- رأيناهم يخطفون المتظاهرين المعارضين لهم ويسحلونهم ويجردونهم من ملابسهم بل ويحققون معهم على طريقة ضباط أمن دولة النظام السابق محاولين انتزاع اعترافات غير حقيقية من هؤلاء المتظاهرين بأنهم تلقوا أموالا من أعضاء سابقين بالحزب الوطني المنحل أو من آخرين، بل ويهددونهم صراحة بأنهم إن لم يقدموا تلك الاعترافات سيتم قتلهم على أيدي مؤيدي الرئيس! والعجيب أن كل ذلك يتم على أبواب قصر الرئاسة، والأعجب أنه يتم أمام أعين ضباط شرطة يرتدون الملابس الميري وقد اكتفوا بدور المتفرّج وهم يرون مواطنين يتم ضربهم بوحشية أمام أعينهم دون أن يحاولوا حتى التدخل بالقبض على هؤلاء الضحايا الذين لا ذنب لهم إلا أنهم رفضوا أن يكونوا عبيدا في زمن الثورة، وهؤلاء الضحايا بينهم الدكتور والمهندس والسفير السابق وعدد كبير من الأطفال! حاول الرئيس في خطابه أن يبدو قوي الشكيمة وهو يحذّر خصومه ومتسامحا ومتفاهما في الوقت نفسه وهو يطلب منهم الجلوس للحوار محددا ميعاد هذا الحوار باليوم والساعة والدقيقة، وهو يعلم تمام العلم أن سُبل الحوار قد انقطعت بعد كل هذا الدم الذي سال سواء من أعضاء جماعته أو من معارضيه، بل تجاهل في خطابه السبب والمحرض الرئيسي على كل أحداث العنف التي شهدها محيط قصره الرئاسي حين أعلن فصيله "النفير" العام، فأتت القوات من كل فج مصري عميق محمولة برا داخل أتوبيسات وفوق سيارات نقل ونصف نقل لتفض اعتصام سلمي لم يشارك فيه إلا العشرات، وبحجة الدفاع عن الشرعية! تلك الشرعية التي أثبت لنا سيادة الرئيس كم تهدّدت بعنف واضح حين أُصيب ذلك السائق المسكين في ليل الثلاثاء، بينما توطّدت بقوة حين أسال المدافعون عنها دماء المئات من المصريين!
ما أعلمه ويعلمه كل عاقل أن للشرعية مؤسسات تحميها –إن كانت مهددة حقا- وهذه المؤسسات لها وحدها حقوق محددة لتفض الاعتصامات إن رأت فيها ما يتجاوز القانون، وإلا فلنلغي القضاء تماما وجهاز الشرطة ووزارة الداخلية ووزارة الدفاع نفسها ليقوم كل فصيل سياسي بإنشاء وزارة داخليته التي تحمي زعيمها، و"البقاء للأقوى" كما قال السيد المستشار نائب رئيس الجمهورية في مؤتمره الصحفي، الذي وياللصدفة العجيبة كان يتم بينما يقوم أعضاء الميليشيات الإخوانية بفض اعتصام المعارضين بالقوة وينزعون خيامهم ويضربون نساءهم ويسرقون سُبل إعاشتهم من بطاطين وأدوية ومشروبات و"جبنة نستو"! أينعم "جبنة نستو"، فيالهم من معارضين مُموّلين خائنين متآمرين أولئك الذين يأتمرون بأوامر البرادعي وحمدين وقد وصلت بهم الجرأة إلى حد أنهم يأكلون الجبنة "النستو"، فالحمدلله الذي أظهر هؤلاء الخونة على حقيقتهم متلبّسين بدليل جُرمهم وعمالتهم لأمريكا التي ترسل لهم "الجبنة النستو". فأي عبث نراه ونتحدث عنه ونعيشه؟
هل يمكن لرئيس منتخب آت بإرادة شعبية حرة بعد ثورة من أجل الحرية أن يُطالب أبناء شعبه بالاقتتال بحجة ردع معارضيه؟ هل يمكن لرئيس للجميع أن يُبارك قيام مجموعات مدنية مسلحة بالدفاع عنه وعن قصره وعن شرعيته -لو افترضنا حقا أنها مُهددة بأي شكل من الأشكال-؟ هل يمكن لرئيس أن يبارك لتلك الميليشيات حقّ القتل واستخدام السلاح بكل أنواعه وحق الضبطية القضائية وحق الاستجواب وحق الضرب والتعذيب وحق الإيداع في السجون وحقّ التهديد بالمخابرات العامة –راجعوا الفيديوهات بأنفسكم وشهادات المعذبين-؟ هل يُمكن لرئيسنا بدلا من أن يأمر بالقبض على هؤلاء الخارجين على القانون نجده يعتبر لكلامهم ويردّده في خطاب يعلم أن العالم كله شاهده قبل شعبه؟ هل يمكن لرئيس أن يقسّم الشعب إلى مؤيدين ومعارضين، ثم يقسم المعارضين إلى معارضة يحبها وأخرى لا يحبها، ثم يطلب من الجميع أن يخضعوا للحوار دون قيد أو شرط في الوقت الذي أكد فيه أن كل ما يمكن أن يقدمه في هذا الحوار هو التنازل عن مادة واحدة فقط من إعلانه غير الدستوري؟ هل يمكن لرئيس بدلا من أن يقدّم لشعبه كل المستندات الدالة على المؤامرة التي تُحاك ضده وضد شرعيته نجده يلاسن خصومه ويبرر قراراته بجلسة سرية في مكتب هذا أو ذاك؟!
سيادة الرئيس.. أرجوك إكشف لنا سريعا تفاصيل المؤامرة وقدّم هؤلاء المجرمين للمحاكمة، ولكن قبلها إعلم أنك رئيس لكل المصريين ولست عضوا فقط في جماعة الإخوان المسلمين.