في قاعة النهر بساقية الصاوي بالزمالك ووسط زحام كثيف حاولت الاستماع لزياد الرحباني وفريقه، لكن كل محاولاتي لم تسفر عن شيء وأعتقد أن هذا حال الكثيرين ممن ذهبوا إلي الحفل سواء كانوا واقفين في الجزء الأمامي المغطي من القاعة أو جالسين علي مقاعد في الجزء الخلفي المكشوف، لا أعرف من المسئول عن اختيار هذا الشكل للقاء الأول والتاريخي بين زياد الرحباني المحمل بتجربة فريدة تمثل التجلي الأكثر حداثة وتمردًا لظاهرة الرحبانية في الموسيقي والغناء والمسرح، والجمهور المصري حامل التراث الهائل في الغناء والاستماع بالكاد، وجدت مكاناً للوقوف في الجزء الأمامي المغطي والأكثر قربا من المسرح، ووفقًا للبرنامج فإنه كان محددًا لبدء الحفل الساعة الثامنة مساء، ومضي أكثر من نصف الساعة عن الموعد ولم يبدأ الحفل وكان الجو شديد الحرارة ولا أثر لعمل التكييفات وكان الجمهور لا يكف عن التوافد، وكان من يقفون في الصفوف الأمامية أكثر حماسًا واشتعالاً ومعظمهم شباب وشابات في أوائل العشرينات من العمر يحملون أعلاما لفلسطين ولوحات أخري، كان تصفيقهم وحماسهم لا ينقطع بدوا أكثر خبرة بنمط المشاهدة والاستماع وقوفًا علي الأقدام، ضج الجمهور من تأخر بدء البرنامج مما دفع مدير الدار محمد الصاوي للخروج وتهدئة الجمهور بأن زياد سيظهر بعد دقائق قليلة، وقال إنه يعتذر عن هذا الزحام وأنه لم يستطع التحكم في ذلك، نظرا للاقبال الكبير علي حفل زياد، فكان يضطر إلي بيع تذاكر أخري وليست المسألة مجرد عملية بيع تذاكر أخري، واقترح علي الجمهور أن يحكي نكتة تزجية للوقت، وبالفعل حكي نكتة عن زوجة عادت إلي زوجها من عند الكوافير وقالت له بذمتك مش كده بقيت قمر أربعتاشر، فقال لها لا كده بقيتي عامية ثم ظهر شخص آخر إلي جواره واعتذر أنه لن يتكلم كثيرا لأن دمه بيبقي تقيل في الكلام، ووعد الجمهور بأن زياد سيظهر بعد دقائق، بدا أن منظمي الحفل لا يعرفون متي سيظهر زياد، وما إذا كان سيظهر فعلاً أولاً؟، كانوا يتلفتون خلف الستار ليروا ما إذا كان قد جاء ليطمئنوا الجمهور الذي دفع 125 جنيهًا ثمن التذكرة للحضور وسط هذا الاضطراب، بعد نظرة أخري خلف الستار أعلن الشخص الذي لن يتكلم كثيرا: نقدم لكم «فخر العرب» يقصد زياد الذي يقدم مشروعه نمطاً مضادا للبلاغة العربية المهترئة والتعابير المجنحة البلهاء لا أعرف ما إن كان زياد قد استمع لهذا التقديم؟ بدأت مقطوعة موسيقية خلف الستار المسدل وسط صياح وتصفيق حاد، ثم انفرج الستار عن زياد وفرقته زياد جالس علي يسار المشاهد أمام البيانو وباقي عازفي فرقته منتشرون علي هيئة قوس وهو الوضع ذاته التقليدي في حفلات الرحبانية، بدا زياد عصبيا وغير منسجم مع الحالة العامة أمام الجمهور الواقف المدرب علي الساحات المفتوحة في حفلات محمد منير، حيث الفرصة للتمايل والرقص والتصفيق والغناء الجماعي علي إيقاعات مواتية تماماً لهذا الغرض، ثم بدأ الصراع بين الجمهور الواقف والمنصة، الجمهور الراغب في التصفيق الإيقاعي والتمايل وحتي الرقص، والمنصة التي تقدم مزيكا مغايرة تحتوي جملاً لحنية هجينة يتداخل فيها الإيقاع وكسر الإيقاع في آن واحد، مما أدي إلي وقوع الجمهور في فراغ إيقاعي فجائي يوقف التمايل في لحظة غير مواتية، وبلغ الصراع مداه في التوزيع الجديد لأغنية بكتب اسمك ياحبيبي، والتي أشعلت الجمهور بوعود التراقص والتمايل الإيقاعي، مما أدي لطغيان صوت الجمهور علي صوت المغنية وأصابها بالاضطراب للحظة، حيث ساد في القاعة إيقاعان مغايران، إيقاع الجمهور وإيقاع توزيع زياد، في ظني خسر الجمهور المصري في حفلة زياد الرحباني المقامة ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي الثاني لموسيقي الجاز بساقية الصاوي، خسر فرصة إتاحة المجال للاستماع الواعي لمزيكا زياد العميقة المعقدة والبسيطة في آن واحد، وخسر زياد الرحباني في لقائه الأول والتاريخي مع الجمهور المصري، حين لم يحدد الزمان والمكان بشكل أكثر دراية وعناية وكسبت ساقية الصاوي كل هذا العدد من التذاكر المباعة، ووضع اسم زياد في «سي في» الدار وخسرت أنا حين خرجت من الحفل دون أن أستطيع الاستماع لزياد، خرجت في جو القاهرة خانق الحرارة، دخلت سيارتي وأدرت الكاست، انساب صوت فيروز «قديش كان فيه ناس» كأن قروناً عديدة مضت ما بين حفل فيروز الأول بالقاهرة وحفل الابن بالأمس، قرون تغير فيها كل شيء الإنسان والزمان والمكان.