قامت ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة وأطاحت بالرئيس مبارك، وسارت بلادنا بعدها على الشوك مايقرب من عام ونصف لنصل إلى العهد الجديد المدني وليتولى زمام الأمور رجل مدني.. أستاذ بالجامعة.. نثق فيه ونعرف قدره، وكنت أستمع إلى أحاديثه قبيل انتخابه فأجده في كل حديث يعد على أصابع اليد الواحدة خمسة أمور هي الأهم لكي تسير بنا قافلتنا، وكلها تتعلق بلقمة العيش ولوازمها، وكنت ساعتها أمنع صوتًا يعلو بداخلي أن لماذا لم يذكر الصحة؟ وأرد على ذلك الصوت النشاز في قلبي أن مايذكره الدكتور مرسي هو الأكثر إلحاحًا، وأن اصبري وعند الصباح يحمد القوم السُرى. واختار الشعب رئيسه، وانتظرت من الدكتور مرسي أن يحدد في خطبه الأولى خطوطا عريضة لسياسة مصر في المرحلة المقبلة تختلف عن مسارها أيام العهد البائد، وكنا أيام مبارك لا نسمع إلا شكواه من كثرة عددنا، وقلة مالنا، وأن همه الأكبر أن يوفر لنا لقمة العيش، وأن نجاحه الأكبر عندما يستقطب رؤوسًا للأموال الأجنبية، وأن غاية مناه أن يقوى الإقتصاد.. ثم تنتهي الأحلام الرئاسية والحزب وطنية عند هذا الحد.. أكل العيش والمال والإقتصاد.. وكيف يأتي المال.. وكيف نطعم العيال.
وانتظرت أن تختلف لغة العهد الجديد عن لغة العهد البائد.. أن تأخذ المؤسسة الحاكمة مسارًا جديدًا غير المسار القديم والذي تفرضه عليها كل الأوضاع المتردية لبلدنا من فقر وجوع وبؤس، وأن تعلي قيمة الإنسان في خطابها، صحته وبناء عقله.. أهدافا بارزة ولو طويلة الأمد.. مُعَنونة بخط بارز نراه بأحلامنا، ونعرف أن هذا هو طريقنا الذي نسعى إليه.. انتظرت أن يقولها الرئيس هدفًا في خطبه العديدة.. أن صحة المصري هدف، وأن يضع لها علامات طريق.. وأن يحشد لها طاقات وآمال.. لكن أيًا من ذلك لم يحدث، وبقينا كما نحن ندور في بوتقة لقمة العيش.. ونحلم بالفتات.
وقامت جموع الأطباء تعترض على منظومة الصحة في بلادنا.. من مستشفيات ومراكز تفتقر لأدنى مستلزمات الاستشفاء، وأبسط قواعد الأمن، ومن أطباء نطالبهم بالكفاءة والتفاني ولا يُعطَون حتى الكفاف، وعلاج يتعلمونه ولا يكتبونه لفقر المريض ولبؤس المراكز الصحية.
وتستمر المأساة التي اكتملت فصولها في العهد البائد؛ المصريون يموتون فيكِ يامصر من قسوة المرض وفقر العلاج وأنت تصدرين الأطباء والكفاءات الصحية، وتستقبلين في مستشفياتك الاستثمارية طالبي الاستشفاء من كل الدول العربية.
ويبلغ النفاق مداه ونحن نُسَوّق بلادنا سياحيًا باعتبارها مركزًا للسياحة العلاجية ومرضانا يموتون لأن ميزانية الصحة في مصر لا تقدر على توفير العلاج لأبنائها.. حتى وان استطاعت مصر أن تعد أطباء من خيرة أبنائها، تصدّر منهم الكثير ويبقى منهم كثير يحاربون فيها المرض ولكن بلا سلاح في معركة غير عادلة.. ويموت فيها مرضاهم فقرًا وعجزًا و ونحن على مآسيهم شهود.
وأكاد أسمع من يحذرني من اليأس ويقويني بالأمل وأن كل ذلك محسوب، وأننا نتعجل الخير ولا نصبر، وأنه ما هي إلا عدة أشهر وسوف نرى ما يفرح أعيننا وتطمئن به قلوبنا، لكن نفسي تعاود النداء وتقول: نريد سياساتٍ عامة، نريد صورةً واضحة لتوجهات بلادنا، نريد من مؤسستنا الحاكمة أن تضع الموازين في نصابها، وأن تعطي المصري حقه، وأن تعطي صحة المصريين قدرها، وأن تنظر إلى المنظومة الصحية بعين الإعتبار.