تتسلسل الأحداث كما يلي، خطاب المائة يوم الذي ألقاه الرئيس في الاستاد عن حجم الإنجاز والذي انتج حالة من القلق وعدم الاقتناع اقترنت بالإنزعاج والتوجس المنطقي من مظهر الزعيم الدوتشي الموسوليني الذي دخل به موكبه إلى الاستاد، وكنت أفضل كثيرا وهو حاكم لشعب متأزم أن يدخل رئيس مصر سيرا على الأقدام في مظهر أقل فخامة وأكثر تواضعا ، تلا ذلك مليونية جمعة الحساب والمظهر المشين اللا ديمقراطي ولا أخلاقي المؤلم الذي ظهرت عليه جماعة اخواننا المسلمين فيما يشبه موقعة جمل جديدة ولكن بيد حكام جدد اعتصموا بالإنكار والمغالطة الساذجة المكشوفة تماما كسابقيهم من رجال مبارك فلم يصدقهم أحد وهو أمر قد يكون رديئا في حالة النظام السابق، ولكن قاتل في حالة من لهم لحى وزبائب (جمع زبيبة فيما أظن) وكان أولى بهم أن يصدقوا الناس القول ويقدموا الاعتذار في موازنة سياسية بين خسائر الاعتراف بالخطأ وخسائر ضياع المصداقية، وهي أحيانا تكون موازنة ضرورية ولكنها غابت عن أعينهم! وكان محتما على الرئيس أن يتكلم بقلب مفتوح حتى ولو أغضب جماعته لحساب باقي الشعب، وكان ساعتئذ سيكسب الشعب ولن يخسر الجماعة، ولكنه آثر الصمت والتباعد في وقت شديد الخطأ، وأخيرا وفي ذات اللحظة وفي مصادفة درامية محكمة يتزامن يوم استحضار موقعة الجمل مع براءة كافة المتهمين فيها ما سبب صدمة عارمة لدى المصريين ولتتآكل شعبية الرئاسة ومعها الجماعة خلال ساعات وعلى نحو خطير وكأن الرئاسة تغرق والجماعة هي الجحر الثقيل المربوط إلى ساقها ،ورغم ذلك، لا تريد الرئاسة أن تتحرر لأسباب قبلية هي أبعد ما تكون عن أصول السياسة أو حتى اعتبارات الصالح العام، وفي قلب هذا المأزق المحموم تتجه أنظار الرئاسة إلى النائب العام باعتبار أن اعتزاله هو مطلب قديم جديد سوف يقدم "الآن وفورا" مسكنا سريعا يخفف الضغط الشديد على الرئيس ولو إلى حين ويشتري للرئاسة بعض الوقت حتى تهدأ النفوس،وكأن الرئاسة ، وليس النائب العام – هي التي تبحث بسرعة عن مخرج آمن لم يكن النائب العام ذاته مضطرا له، ولعل هذا يفسر تعجلها في الإعلان والذي انتهي بكارثة لتزداد الرئاسة غرقا وتورطا، ويبقى أصل المشكلة، وزارة الداخلية، تلك التي لا تريد أن تعمل على حفظ الأمن إلا بشروطها، ففي عهد منصور العيسوي لم تقم الداخلية بنشاط يذكر باستثناء جرائمها السافلة في محمد محمود، وفيما عدا ذلك جلس الضباط في أقسامهم عازفين عن العمل ولسان حالهم يقول "خللي الثورة تنفعكوا!" ثم يأتي الوزير محمد ابراهيم بنوع من التفاهم مفاده أن "الأمن شغلتنا ومحدش فاهم فيه غيرنا، حايرجع بشرط ماحدش يقرب من رجالتي!!"وتستعيد الداخلية نشاطها الأمني بنجاح ملحوظ إلى أن ثار موضوع إعادة الهيكلة في مجلس الشعب فهاج الوزير ابراهيم وماج فجأة وصاح في النواب " مفيش حاجة اسمها إعادة هيكلة" ويرحل الوزير غاضبا مغضوبا عليه ليخلفه الوزير الحالي، وعلى ما يبدو أن الرئاسة اضطرت مرغمة آخر الأمر للرضوخ لشروط الوزارة المتهمة بالقتل، لتؤجل مسألة القصاص إلى حين حرصا على أمن مصر إجمالا، فتمتنع الداخلية عن تقديم أدلتها ضد نفسها وتدير الرئاسة وجهها في الاتجاه الآخر، خصوصا أن زمام سيناء سيفلت أيضا والنظام في حاجة إلى كل الخبرات المخابراتية والمباحثية والأمنية حتى ولو على يد عتاولة خبراء النظام القديم "المخربشين" في كل تلك الأجهزة أخذا في الاعتبار الحاجة الماسة إلى لم عك المشير طنطاوي وزبانيته الذين انشغلوا بصينية ميدان التحرير تاركين الحدود الغربية مع ليبيا ملعبا مفتوحا دخلت منه إلى سيناء ترسانة أسلحة خفيفة وثقيلة لا حصر لها! والنتيجة أن تنهال أحكام البراءات في محاكمات قتلة الثوار كالمطر، وتبدأ عودة الممارسات الفردية القديمة لضباط الداخلية في تعذيب المصريين وإهانتهم في محاولة منها لاستعادة المجد القديم وتصفية الحسابات مع الثورة، ولم لا؟ ثم أخيرا ..تأتي حكاية النائب العام الذي سيظل اعتزاله أيا كان توقيته أو ظروفه مطلبا شعبيا حقيقيا، ولكن الحقيقة أيضا أنه لن يستطيع أي نائب عام جديد حل مشكلة القصاص مهما كان عبقريا، إذ أن كل أجهزة الأمن المذكورة هي أدواته، وبغير تعاونها سيكون كالأعمى الكسيح ولن يصل إلى شيء ،وكيف يمكن لجهاز أمني متهم بالقتل أن يقدم الدليل ضد نفسه للنائب العام؟!! ولو اختار النائب العام الجديد أن يغزو هذه الأجهزة بنفسه بفرق تحقيق مستقلة بحثا عن الحقيقة فسوف ينهار الأمن في مصر في ساعة واحدة،هو إذن تأجيل للقصاص مع وعد رئاسي بإعادة المحاكمة عندما تتيح الظروف استخراج الأدلة الجديدة، وأقول للرئيس أنه وللأسف فإن الأدلة الجنائية لا تنتظر الظروف المواتية، بل هي تبوش بسرعة فتتغير المعالم وتضيع إلى الأبد، وأخشى أن هذا قد حدث فعلا بعد مرور كل هذا الوقت.
الحقيقة التي أضعها أمام الكل وأدعوهم للتفكير فيها هي أن أي اقتراب من إعادة هيكلة وزارة الداخلية سيعرض كل الأمن في مصر للخطر ، إلا لو تم تنفيذ ذلك بشجاعة نادرة وجرأة حقيقية وأداء محكم على طريقة مرشدي قناة السويس في عام تأميمها مع الفرق الهائل في الحجم والعبء،وبشرط أن يدرك الشعب مع الرئيس العواقب المحتملة ويتحملها لعام أو عامين،ويزيد من صعوبة الأمر أن استشراء الواسطة خلال سنوات طويلة مضت قد حول الداخلية إلى مافيا أسرية كبيرة ذات روابط عائلية لا تسمح بالتدخل فيها أو كسرها وهكذا، فأنا أضع المشكلة المسكوت عنها أمام الكافة، الأمن أم القصاص؟ أما الرئيس، فأهمس له أن صارح شعبك بالحقائق يا سيادة الرئيس شاركهم ، كن شفافا مباشرا فالناس يريدون الحقيقة ولا يستحقون إلا الحقيقة، وسيقدرونها لك مهما كانت مرارتها، وعلى رأي المثل، الصدق مانجة! (الحرية لضابط الصاعقة المعتقل محمد وديع) .