أما ثالث أبرز ما شاب مائدة التليفزيون الرمضانية هذا العام وفق متابعتي المتواضعة فهو انتشار ظاهرة العنف اللفظي والبدني. ولا تكاد تمر حلقة في مسلسل من دون إهانات للآباء والأمهات، سواء في المواقف الجادة أو الضاحكة. فضلا عن كثرة مواقف العراك باليد أو بالسلاح الأبيض؛ تنفيسا عن الغضب وحسما للخلافات! وعلى الرغم من انتشار ظاهرة العنف اللفظي والبدني في الواقع الحقيقي، و عبر مختلف الشرائح الاجتماعية ، كرد فعل عصبي على ما شهده المجتمع من عنف وحشي ودموي مارسته أجهزة الأمن في مواجهة الثوار، واقترفه البلطجية الذي تصدروا مشهد الائتلاف الأمني.
وأيضا كمتنفس لخيبة أمل الجميع من أداء المسئولين عن المرحلة الانتقالية، ونفاد صبرهم من تقاعس الحكم الجديد عن الوفاء بأي من تعهدات الحملة الانتخابية، بل وتكريم المسئولين عن قتل الشهداء بدلا من القصاص منهم، والإفراج عن مدانين بالقتل في جرائم إرهابية بدلا من معتقلي الثورة في السجون العسكرية؛ ولا أرى في الحديث عن الواقعية، وضرورة أن ينقل الفن الواقع، مبررا مقنعا، لنشر هذه البذاءات في البيوت وعلى أسماع الأطفال.. فمن المفترض أن ما قد يسمح به على شاشة السينما، يختلف عما ينقل إلى بيوتنا عبر شاشة التليفزيون. ولا شك أن رسالة الفن الحقيقية هي التحريض على تغيير الواقع إلى الأفضل، وليس تكريس قبح الواقع، عبر تشجيع الصغار على تقليد أبطال يحبونهم، واعتبار الشتيمة بالأب والأم أمرًا عاديا في إطار المزاح بين الأصدقاء أو الخلاف بين الناس!
ولعل أحداث دهشور الأخيرة؛ التي تحولت من حادث بين مكوجي وزبون، إلى إجبار سكان القرية المسيحيين على ترك بيوتهم وممتلكاتهم فرارًا بحياتهم، أبلغ دليل على ما أفرزته ثقافة العنف كحل للخلافات! وإذا كانت المسلسلات دأبت منذ فترة على تضمين الأحداث شخصية مسيحية طيبة، إلا أن هذا لا يكفي لمواجهة حالة الاحتقان التي نجمت عن جرائم متعددة ارتكبت في حق الوطن، من بينها غرس ثقافة العنف اللفظي والبدني في إعلامنا عبر سنوات طويلة. وكنت قد دعوت مع اندلاع حادث العنف العاطفي في العامرية مما أسفر عن تهجير الأسر المسيحية منها إلى تشكيل دروع بشرية من النشطاء، للإقامة في ضيافة الأسر المسيحية هناك، وصد محاولات طرد الناس من بيوتهم. لكنني فوجئت بإنهاء الحادث على النحو الذي آلت إليه الأمور.
وعندما تكرر الأمر في دهشور، صار الترحيل القسري للمسيحيين من بيوتهم سابقة جاهزة للتطبيق. وكررت على الفيس بوك نفس الدعوة، ليتلقفها هذه المرة نشطاء مخلصون، على غرار ما حدث عندما أطلقت دعوة الدروع البشرية لحماية الكنائس عقب مذبحة كنيسة القديسين. إلا أن انتشار ظواهر العنف، مع تقبلها كأمر واقع في المجتمع، يبدو عقبة في طريق حل المشكلة على نحو يليق بشعب مصر؛ خاصة مع تقاعس أجهزة الدولة عن معاقبة المخطئين، ومنع جريمة تهجير مواطنين من بيوتهم. والغريب، أن رئيس الجمهورية الذي تعهد بالحفاظ على مدنية الدولة، وأعلن أنه لن ينام وهناك مظلوم في البلد، ترك أحداث دهشور مشتعلة، وذهب ليصلي الجمعة في قنا! ولم يتحدث عن الأحداث إلا بعد إلحاح المواطنين هنا في السؤال عن موقفه من الحادث!
ومما يثير الاستياء، تلك الإعلانات المفروضة على المشاهدين عنوة، ضمن أحداث المسلسلات وقبلها وبعدها، بما تتقيأه من ابتذال وإسفاف في عقول المشاهدين: بداية من ذلك "الشحط" السخيف الذي ينتحل دور شاعر يخاطب امرأة، متسائلا في بلاهة عما إذا كانت طامعة فيه أو في ملابسه الداخلية! ثم، وبنفس البلاهة، يتباهى أكثر من "شحط" آخر، بالانتساب إلى نفس ماركة الملابس الداخلية! إلى الإعلان الأسخف الذي يبتذل صفة الكرم العظيمة، ليحولها إلى سفاهة، توحي للناس أن الكريم هو من يتطوع بسداد حساب جميع الواقفين في طابور دفع ثمن المشتروات، أو الجالسين في مقهى! ولعل أكثر ما يؤلم النفس، إعلانات تلح على نشر ثقافة التسول بين المواطنين: من استدرار للعطف والمال بأفظع صور انتهاك الطفولة بحجة التبرع للمستشفيات، أو إعالة الأسر الفقيرة؛ إلى الإنفاق على البحث العلمي، وعلى طلاب الجامعات الفقراء، وإنشاء المؤسسات العلمية! وهو ما يدعو للتساؤل حول دور الدولة، ومسئوليتها عن توفير الحاجات الأساسية للمواطنين، ويشكك في ضرورة وجود مؤسسات الدولة أصلا.
ومما يرفع ضغط الدم ومعدلات السكر في الدم، وربما يدفع للجنون؛ أن تعقب هذه الإعلانات، إعلانات اخرى تدعوك لسكنى ما يشبه القصور في منتجعات فاخرة، وسط أحضان طبيعة خلابة، الطيور النادرة وحمامات السباحة! لتتأكد من كونك تعيش في مجتمع فاحش الجنون، يرتضي أن تنعم قلة قليلة من المواطنين ومعها صفوة أبناء الدول الشقيقة الثرية بحياة خيالية مجنونة البذخ والسفه، بينما تعيش أغلبية المجتمع على ما يجود به الأثرياء من فتات صدقاتهم!
كانت هذه خلاصة متابعتي على عجل لبعض ملامح التغيير التليفزيوني هذا العام.. محاولات حثيثة لتغيير مفاهيم أصيلة في الثقافة المصرية، وإحلال مفاهيم مشوهة بغرض فرض ثقافات مجتمعات أخرى، وإلهاء مقصود عن القضايا الحقيقية.. تؤكد جميعها ما يحرص كثيرون على تجاهله، وهو أن ثورتنا لم تكتمل بعد رغم نجاح الجولة الأولى منها في إزاحة رؤوس النظام وعلينا أن ننتبه لمحاولة امتصاصها وإجهاضها، عبر الاكتفاء بتغيير الوجوه، مع استمرار جوهر النظام.
ولا شك أننا لن نشهد التغيير الحقيقي إلا بعد انتصار الثورة الحتمي، وهو ما يحتاج منا إلى إيمان حقيقي بثوتنا وإصرار على النصر، مع طول النفس والاقتناع بأننا سوف نحصل حتما لما نريد عبر التجربة والخطأ ، وأنه من الطبيعي أن نرتكب أخطاء فادحة نتعلم منها دروسا عظيمة تدلنا على الطريق الصحيح، مع الاستعداد لدفع ثمن الحرية بالكامل.. يومها ستعود الريادة المصرية الحقيقية.. وننفض الغبار عن الثقافة المصرية الأصيلة.. وننتزع ما دفع كثيرون من أبنائنا ثمنا غاليا لانتزاعه: العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية! ونتذكر أن دولة الظلم ساعة..لم يتبق منها سوى دقائق!