لا أكاد اصدق سرعة تدفق الأحداث في مصر المحروسة فنحن لا نكاد نستفيق من حدث إلا وجدنا حدث آخر يأخذ البلد كلها ورائه حتى اختلط الأمر على الناس واصبح هضم ما يحدث امر عسير من كثرة التفاصيل وتتداخلها. الأمر المؤكد ان هناك حوار سياسي عميق يجري فى مصر ويتخذ من لغة القانون وساحات المحاكم ارضية لهذا الحوار. ونحمد الله ان لغة الحوار السياسي اختلفت بعد انتهاء المرحلة الأنتقامية وبداية الأنتقالية. وهذا لا يعني ان دور الشارع والحشد والضغط الشعبي انتهى ولكن الأمر دخل الى طور أخر وسيأتى وقت العمل الشعبي الثورى مرة أخرى. أقول هذا واعرف ان هناك حشود تنزل الى التحرير وأخرى تنزل الى المنصة لتناصر فريقها سواء كان أخوان او عسكر فى السجال الدائر حالياً بينهما على امتلاك السلطة الحقيقية فى البلد. لكن هذه الحشود تنزل بنظام وتمشي بنظام وهو ما يعني انها مأمورة، اما الحشد الشعبي الثورى فشيئً آخر. وقبل الغوص فى التفاصيل، أشير سريعاً الى انى كنت دائماً اردد ان هناك فرق بين منصب الرئيس و سيطرة الرئيس واعتقد الآن ان اي متابع يعرف بالضبط الفرق بين الأثنان بعد ان تفاقم صراع الأرادة بين المرسي والعسكر وان كان العسكرى اذكى هذه المرة وفضل عدم الزج بنفسه مباشرة فى وجه الرئيس وصدر القضاء بدل منه ليتولى واجهة الصراع امام المرسي. النتيجة الفورية لتصاعد الأحداث بعد قرار المرسي بعودة البرلمان واصرار العسكر على رفضه عبر الدستورية، ان التصعيد زادت وتيرته من العسكر وفجأة تقدم تاريخ الفصل فى صحة تكوين اللجنة الدستورية الى يوم الثلاثاء القادم 17 يوليو بدلاً من شهر سبتمبر. النتيجة المتوقعة لهذا التقديم ان الحكم قد صدر بحل اللجنة.
وأذا صدق التوقع بحل اللجنة الدستورية فساعتها يصبح مع العسكر صلاحية انشاء اللجنة الدستورية الجديدة، ناهيك عن سلطة التشريع وكذلك الأمساك بالموازنة العامة للدولة مما يدفع للتساؤل، ماذا تبقى للمرسي من صلاحيات بالضبط؟ ولا يفوتنا ان نتوقع ايضاً النجاح للجنة الدستورية التى سينشأها العسكر فستهرع الكنيسة والأزهر وباقى مؤسسات الدولة وكذلك احزاب القوى المدنية خاصة تلك التى اصطفت خلف الفريق شفيق فى الرئاسة وقد تتنافس بينها في من له الحق فى الدخول الى اللجنة وبأي نسبة. وفى المقابل سيبقى المرسي رئيس منزوع الصلاحيات، يملك الشرعية ولا يملك التنفيذ. لاحظ انه اصدر قرار برفع الحد الأدنى للاجور ومع هذا لم ينفذ لأن الموازنة ليست ملكه. لماذا وافق المرسي اذاً على قرض بقيمة مليار دولار فى اول يوم دخوله للقصر الذي قدمته له فايزة ابو النجا؟
مشكلة الأخوان التى يقعوا فيها كل مرة هي الهرولة وراء الغنائم. حدث هذا وقت غزوة الصناديق عندما سوقوا للشعب نعم وقالوا مضللّين انها لحفظ الإسلام ثم عانوا من تبعاتها فى المادة 28 من الأعلان الدستورى الغير شرعي والغير مستفتى عليه حتى فقدوا البرلمان بعد ان حصدوا فيه الأكثرية. ثم كرروا نفس الفعلة بعد فوزهم بالرئاسة وقال لهم الثوار ارفضوا القسم امام الدستورية العليا وارفضوا الأعلان الدستوري المكمل لكن المرسي لم يستمع والنتيجة انه بالأعلان المكمم اصبح منزوع الصلاحيات وعلى وشك ان يفقد اللجنة الدستورية ومجلس الشورى بعد ان فقد التشريع والموازنة وكل هذا يوم الثلاثاء القادم. لم يدرك المرسي ان المشكلة مع القانون فى مصر انه مُفَصّل تفصيلاً ليكون أداة رهن أشارة الحاكم الذى يملك السلطة فلقد نجح ترزية القوانين فى أصدار حزم من القوانين تكون أداة فى يد الرئيس المسيطر على السلطة فأن شاء سجنك وأن شاء اطلق سراحك وبنفس القانون. صحيح ان المرسي رئيساً بالمنصب ولكنه لا يملك سيطرة الرئيس. ولو عدنا الى الوراء قليلاً وكان مبارك هو الذى اصدر القرار لوجدت الدستورية الف مخرج له، مثل انها غير مختصه امام القرارات السيادية او شيء من هذا القبيل. لم يفهم الأخوان ما كنا نقوله انه لم يكن مجرد فساد دولة ولكنها كانت دولة فساد وان الأصلاح التدريجي على ارضية ملغمة وهواء مليئ بالسموم لن يجدى وان الأصلاح الجذرى الثورى لا مناص عنه. والنتيجة ان الأخوان والمرسي الآن فى حالة أضعف مما كانوا عليه قبل الفوز بالرئاسة والبرلمان.
أقول هذا ولست منحاز ضد او مع المرسي او الدستورية فى موقف ايا منهما ولكنى معنى بأمر مصر والمستقبل وأرى ان كلاً من العسكر والأخوان يتنافسان على منصب الوكيل المحلي لأمريكا فى حكم مصر وانا ارفض الأثنان معاً وتوجهما. وكم كنت اضحك بداخلى اثناء انتخابات الرئاسة خاصة فى الجولة الأولى عندما خرجت علينا برامج المرشحين وكلها وعود وردية بمستقبل زاهر ولم يضع اكثرهم طبيعة المرحلة التى يتولى فيها القيادة. لم ينتبه اكثرهم الى صلاحياته كرئيس وما بأستطاعته فعله وما يخوله الدستورفعلياً. لذلك اجد نفسي أتسائل، هل نحن فعلاً فى رحلة الأنتقال للمستقبل ام اننا فى رحلة لأستكشاف الجزء الغاطس من جبل الجليد الذى اصطدمت بها سفينة الثورة؟
لا اريد بكلماتى هذه ان اثبط الهمم فأن على ثقة من انتصار الثورة فى نهاية المطاف واظن ان اكبر تحدي امامنا هو تمليك السلطة للشعب الذي خرج واسقط النظام وهو رافض لكل التنظيمات المغلقة على نفسها عسكرية كانت او دينية فالدولة التى نريدها هي الدولة الديمقراطية المدنية الحديثة التى تتفاعل بأنسجام مع العالم وطبيعة العصر وقوامها من الشباب الذين يملكون جسارة الحلم وعزيمة التغير والمعرفة والفهم اللازمين لروح العصر. واذا كان الحوار السياسي معنى الأن بالدستور فأن الذي يليه هو انتخابات البرلمان فأستعدوا من الآن فهي على الأبواب..