إذا لم تصدّقني عزيزي القارئ فيما سأذكره لك؛ فتعال إلى دار السلام بعد الإفطار جميع أيام رمضان، طولقد وصفته لحضرتك وصفا دقيقا لأنني عاينته وعانيت منه أكثر من اثنين وعشرين رمضانا ! ولكن.. وفي العَشر سنوات الأخيرة؛ تفاقم الوضع إلى درجة مفزعة مخيفة. الشارع مزدحم إلى درجة لا تحتمل، والسيارات واقفة فى أماكنها لا تتحرك إلا ببطء شديد، والآن رفع أذان العشاء من عشرة مساجد فى المنطقة فى آن واحد، ميكروفوناتها انتشرت على الجدران والشرفات وفوق الأسطح، تباينت أصوات المؤذنين بين الأجش والناعم، والخشن والرقيق، كلها تشترك فى علوّ درجة الصوت إلى درجة لا تحتمل، تخترق الأعصاب وهى تدعو الناس للصلاة، بعد رفع الأذان بعشر دقائق؛ تحول المشهد المسموع إلى ضوضاء رهيبة، لا يستطيع المرء تمييز أى من أصواتها على حدة، فأصوات أئمة المساجد يتلون قرآن صلاة التراويح اختلطت مع أصوات السيارات المزعجة، وأصوات التلفزيونات العالية تذيع المسلسلات والإعلانات، مع أصوات الباعة ينادون على بضاعتهم ، وأصوات سيارة إسعاف (فى الأغلب مات من بداخلها)، وسيارة مطافئ لا يستطيع سائقها تجاوز الزحام، وأصوات الناس فى الشارع؛ هؤلاء يصلون وآخرون يتشاجرون ويسبون بأعلى صوت، وأولئك ينادون على وجهة الميكروباص: السيدة .. جيزة .. بولاق، وقد يسمع دوي إطلاق رصاص أو خرطوش في مشاجرة أو في افتتاح دكان الحلواني المجدَّد، ويتصاعد اختلاط الأصوات ليصل إلى ذروة الهيستيريا، في غياب أي تواجد للأمن من الشرطة أو الجيش، ولا عجب.. فاليوم أول أيام رمضان !
هذا المشهد الضوضائي يحدث في وجود كل ما يميز عشوائيات مصر، فالرصيف محتل ببضائع المحلات وأقفاص وصناديق الباعة الجائلين، والرصيف الأوسط يرتفع عن الأرض نصف متر، لكي لا يسمح لكبار السن والعجزة بالعبور، والقمامة تعلو تلالا قام أولاد الحلال بإشعال النار فيها، وحارات ثلاث من حارات الشارع الأربع تحتلها السيارات المصفوفة والقمامة والباعة بعربات الكارو، وبالعافية تسير السيارات في الحارة الوحيدة المتاحة فوق القمامة المدكوكة، والمجاري طافحة والمطبات لا تحصى، وفي الخلفية تستطيع حضرتك أن ترى أبراجا بنيت خلال العام الماضي، ترتفع اثني عشر طابقا، على مساحات من الأرض لا تزيد عن ثمانين مترا مربعا، ما يبادر إلى ذهنك فورا برج الإسكندرية الذي انهار منذ يومين، وكل لحظة في دار السلام لا ترى عيناك إلا تلوثا وترابا ودخانا وقذارة.
ومع تلوث السمع بالضوضاء الرهيبة، وتلوث البصر بكل مظاهر العشواء، تلوثت الأخلاق وانهارت القيم، وتشبع الهواء برائحة الانفلات والفوضى واحتراق الزبالة والكلاب الميتة، وما عادت مظاهر التدين التي يبديها كثير من الناس تجدي في إخفاء حالة الانهيار الأخلاقي في الشارع، وهنا أذكر ما تحدث عنه أستاذنا الدكتور جلال أمين في بعض كتبه؛ الدولة الرِّخوة، الدولة التى يستطيع كل إنسان فيها أن يفعل ما يشاء دون خوف من رادع أو من قانون، فالقانون لا يطبق إلا على الضعفاء، وأزيد وصفاً لفكرة أستاذنا ؛ فى الدولة الرخوة يعلو صوت كل شئ إلا صوت الحق، وفيها تختلط الأصوات محدثة ضوضاء ملوثة للأسماع والأنفس والحياة كلها، ومصر مبارك هي الدولة الرخوة بكل صفاتها، فهل أصبحت ثقافتنا فى مصر الرخوة ثقافة الضوضاء التي تهوي بنا نحو القاع ؟
من الذي أفهم مؤذن المسجد أن إيمان الناس يزيد كلما علا صوته في الأذان ؟ من الذي أوحى إلى القائمين على إدارات المساجد أن إذاعة الصلاة في ميكروفونات المسجد الخارجية يؤدي إلى دخول السامعين في حالة روحانية في صلاة التراويح ؟ لماذا لا يكتفي أئمة المساجد بإذاعة الصلاة في مكبرات الصوت الداخلية، حتى لا تختلط الأصوات، ولا يعي السامعون خارج المسجد شيئا مما يسمعون ؟ إن المسلم مأمور في حياته كلها بالامتناع عن فعل الحرام، فإذا جاء رمضان؛ امتنع عن الحلال طاعة لله وامتثالا لأوامره، فلماذا لا يكون رمضان شهر الهدوء والسكينة، والعبادة والتفكر، والنظام والالتزام ؟
منذ أن استسلم المصريون عبر ثلاثين الأعوام الماضية لطريقة إعلام الدولة الرخوة في إدارة الشهر الفضيل، ورمضان ما عاد رمضان، فبدلا من أن يكون شهر الزهد والعبادة؛ أصبح شهر الأكل والمسلسلات، وبدلا من أن يكون شهر الهدوء والسكينة؛ أصبح شهر الصخب والإعلانات، وبدلا من أن يكون شهر القرآن والذكر؛ أصبح شهر الفن والفوازير، وبدلا من أن يكون شهر الطمأنينة في العبادة؛ أصبح شهر السهر والسحور على أنغام التخت الشرقي.
إن ترك المصريين نهبا لمروجى ثقافة الضوضاء كارثة حقيقية، يجب أن نتصدى لها لمحو آثارها، ولتمكين ثقافة الهدوء والصوت المنخفض من نفوس المصريين، فاستعمال آلات التنبيه فى السيارات بلا داع ، واستعمال مكبرات الصوت فى كل مناسبة وفى كل مكان، وعلو أصوات المتحاورين، وتلويث البيئة بالأصوات المنكرة المنبعثة من الكاسيت والسى دى والدى جى، كل هذا جعل الحياة فى العاصمة لا تحتمل، وجعل الإصابة بالعديد من الأمراض العصبية لا مفر منه، وكلها أدواء ينبغى أن تتصدى لها وزارة الثقافة في إدارة الدكتور مرسي لتجد لها الدواء، فإذا لم تتول وزارة الثقافة هذه المهمة التى تعتبر من صميم أولوياتها؛ فإننا نطالب أولى الأمر بضمها إلى وزارة الإعلام لتتولى هي إدارة أمور الفن والرقص والمسلسلات، ولْتُستحدَث وزارة جديدة؛ وزارة الثقافة الشعبية، على غرار وزارة السد العالى فى منتصف القرن الماضى، تكون مهمتها الرئيسية إعادة المصريين إلى ثقافة الهدوء والصوت المنخفض، بدلا من تركنا نهبا للضوضاء؛ رأس الحربة فى ثقافة الميكروباص. إسلمي يا مصر.