قضية القرن.. محاكمة العصر.. النظام يُحاكِم رئيسه.. القضاء هو الحصن الحصين.. القوى الأمين.. الناجز المتين... أمس، كانت القضية التى انتظرنا حكمها سنة وأربعة أشهر (تقريبا)، كان الحكم صادما للجميع، ودائما يأتى كل شىء مخالفا للتوقعات.. عندما نتوقع الخير والعدل والقصاص، يكون السوء والظلم والأحكام المسيسة، وعندما نتوقع الخير لا يكون إلا السوء.
توقعنا عدم فوز التيار الإسلامى (إخوان مسلمين وسلفيين) بأغلبية البرلمان، وفعلا اكتسحوا جميع المرشحين، للأسف، وتوقعنا أن يكون برلمانا ثوريا، لكنه صار برلمانا هوائيا مزاجيا.. توقعنا جمعية تأسيسية لصياغة الدستور تمثل، على الأقل نصف أطيف الشعب، فكانت جمعية الإخوان المسلمين والسلفيين الممثلة لهم فقط.. توقعنا رئيسا ثوريا، أو حتى يمكن أن يكون كذلك.. أو على الأقل تكون جولة الإعادة بينه وبين غيره من أى المرشحين، فكانت النتيجة المؤلمة التى صدمتنا جميعا وجعلتنا نكلم أنفسنا دائما ولا نوقف التفكير أو الاستنكار أو السب واللعن (بين محمد مرسى مرشح الإخوان وأحمد شفيق مرشح الفلول).. كذلك جاء حكم قضية القرن التى انتظرنا أن يُحكم فيها طوال عام كامل، وربما أكثر قليلا، وجاء الحكم فى ميعاد قاتل بالنسبة إلى المرشحَين، وسيمثل لهما نوعا من الدعاية والدعاية المضادة، وسيكون على كل مرشح أن يستغل هذا الحدث فى دعايته.
المهم.. جاء هذا الحكم مخيبا لآمال الجميع، كتوقعاتنا السابقة التى خيبت آمالنا فيها.. لا أنكر أن أغلبنا كان يهيئ رد فعله إذا ما حكم بالبراءة للجميع أو حتى أحكام لا تتجاوز الأعوام العشرة، أما أحكام الإعدام فكانت نوعا من الأحلام (لا أنكر أننا نتمناها جميعا، لكنها كانت صعبة فى ظل نقص الأدلة).. لا أنكر أن هناك من فرحوا بالحكم لأنهم ظنوا أن العقوبة الموقَّعة على حسنى مبارك كافية، وكذلك حبيب العادلى.. لا أنكر أننا كنا نتمنى أن يُسجن مبارك ولو خمس عشرة سنة وكذلك العادلى.. أغلبنا توقع ذلك، لأننا كنا نعلم ومتأكدون أن الأدلة على ارتكاب الجرائم والتحريض عليها غير متوافرة، وأنه تم حرقها أو فرمها، لكننا كنا نعلم أن هناك عدالة ثورية، ولا يجوز أن يُحاكِم نظامٌ من أرسوا دعائمه.. فلا شك أن مؤسسة القضاء عريقة كلنا يحترمها ويجلها، لكنها من دون شك كانت إحدى مؤسسات النظام السابق التى لم تطلها الثورة، مثلها مثل وزارة الدفاع وكذلك النيابة العامة والداخلية التى لم تطل الثورةُ إلا قياداتها فقط، فكيف يُحاكِم نظامٌ نفسه؟ فهؤلاء جميعا كانوا جزءا من النظام السابق.
كيف يكون المتهم هو نفسه القاضى؟ هل يمكن أن يحكم على نفسه بعقوبة قاسية؟ هل يمكن أن يعطيك أدلة إدانته؟ هل يعقل أصلا أن تكشف الداخلية عن أدلة تدين كل فرد فيها؟ فليس العادلى أو مساعدوه إلا كبش فداء لمؤسسة كاملة ونظام بأكمله، فهؤلاء يا سيادة القاضى كانوا العقل المدبر، أما الباقون فكانوا أيدى النظام التى تبطش.
للأسف، وعلى غير ما توقعنا تماما، جاء الحكم بالسجن المؤبد (25 سنة) لحسنى مبارك وحبيب العادلى، وكان هذا أقصى أمانينا، لكن الحكم على الباقين هو ما أشعل غضبنا وأدخل الريبة فى قلوبنا وجعلنا نشك أن فى الأمر ملعوبا كبيرا.. فكيف يُحكَم على العادلى بالسجن المؤبد، بينما يُحكم لمساعديه بالبراءة؟ يا سيادة القاضى إن قرينة الاشتراك فى القتل بالتحريض متوافرة لدى الجميع، فحبيب العادلى لم يأمر أمناء الشرطة بضرب المتظاهرين بنفسه، ولم يأمر كذلك الضباط بنفسه، وإنما هى سلسلة تبدأ منه إلى مساعديه، ومنهم إلى الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، حتى تصل فى النهاية إلى من يمسك البنادق..
أتصور أن القاضى لو كان قد أصدر أحكاما بالسجن على الباقين، ولو أحكاما أخف فى العقوبة من العادلى ومبارك فإن الناس كانت ستتقبل الأمر وترضى بالحكم..
أعلم يا سيادة القاضى أنه القانون الذى أقسمت على خدمته وإعلاء رايته، وأعلم أن هذا القانون يحتاج إلى الأدلة كى تثبت التهم، ولا يُحكَم بالهوى أو بالظن حتى لو كان الظن يقينا... لكننى أؤكد لك أن الأدلة موجودة، فهى حتى لو احتفت فإن جثث الشهداء باقية تشير إليها، فالبعرة تدل على البعير والأثر يدل على المسير، ولا بد للقتلى والشهداء من قاتل آثم..
ولا تنس يا سيادة القاضى أننا فى ثورة، كما نسى آخرون، وإن كنت نسيت فإن الشعب نزل إلى الميادين ليذكّرك ويذكّر غيرك أن الثورة مستمرة، ويؤكد أنه ليس كما ظننتم "شعب عمل ثورة ونام عليها"، لقد أكد الشعب أنه ما زال قادرا على أن يفور ويثور. لقد خرج الشعب ثانية، خرج ليؤكد أن حق الشهداء لن يضيع حتى لو كان القاضى هو مبارك نفسه أو العادلى ذاته، لا جزءا من نظامهما.