اليوم يحتفل العالم كله بعيد حرية الصحافة.. وكنت أتمنى أن نختال عليهم جميعا، بما حققنا في مجال حريات الصحافة والتعبير والإعلام، كما بهرناهم بثورة أصبحت نموذجا، لكن يكاد ينتصف العام الثاني عليها، وحروب الاستنزاف تأخذها بعيدا عن أهدافها، وطاقة الفعل الثوري التي خرجت تنتزع الأمل بالدماء والتضحيات تبدد على أبواب الذين سرعان ما استبدلوا بشعار "الثورة أولا" "السلطة أولا"، ومن تمكين أهداف الثورة إلى تمكين تعليمات التنظيم، ومن الوفاق إلى التنافر، لكن رغم كل ذلك فاليقين عندي هو انتصار الثورة في النهاية، وانتزاع حقنا في دولة ديمقراطية، دعامتها حرية التعبير وتحرير الصحافة والإعلام. وعلينا أن نعترف بأن هناك تيارات فكرية وسياسية ومؤسسات عديدة، تساهم في سوء الفهم بين حرية الصحافة والديمقراطية، وتنفخ في الحديث الهائل، عن الفوضى الإعلامية، واعتبارها وراء كل نقيصة، رغم أن هذا عرض لمرض، وكما أن الثورة لم تسقط النظام بعد، كذلك الإعلام الذي مازالت تحكمه ترسانة القوانين المقيدة للحريات، التي ظلت كما هي لم تبرح مكانها. والإعلام الذي لم يتحرر بعد، من الطبيعي أن تتعثر محاولاته بعد الثورة في أن يتقدم خطوة نحو استعادة ثقة المواطن فيه، وأن تعاوده أعراض الانتكاس والتوجيه والتشويه والتضليل، بل وفي هذا المناخ السلبي الذي يترك فيه الإعلام في العراء بلا صاحب، من الطبيعي أن يتسلل القطاع الأكبر من المال الحرام، الذي يتدفق من الخارج والداخل لحصار الثورة وخنقها، لبعض وسائل الإعلام التي تدخل بيوت الناس، وتحاول أن تلعب في أدمغتهم، مثلما جرى من قبل مع بعض الثورات في أوروبا الشرقية التي انحرفت عن مسارها. وأعتبر أن إهمال التعامل مع ملف حرية التعبير والصحافة بعد كل هذه الشهور على الثورة ليس وليد صدفة، بل وليد استمرار فلسفة الاستبداد، سواء استبداد نظام مبارك أو الذين يحاولون وراثته، كما أنه ليس وليد صدفة أيضا أن ينصرف الحديث عن تحرير وسائل الإعلام لتكون في خدمة الشعب وثورته، باعتماد فلسفة الحرية ، التي تولد المسئولية والتنظيم الواعي لهذه الحرية، لننتقل للهجوم على الإعلام الذي أصبحت توجه له السهام من كل اتجاه، وصار في مجمله لا يرضي الثوار، وينتقده المجلس العسكري، ويهاجمه الفلول، ويغضب منه الإخوان، ويتهمه السلفيون وتعاتبه بقية القوى السياسية الأخرى. لذلك لا أنسى أبدا مقولة شيخ الصحفيين ونقيب النقباء كامل زهيري "أن ترسانة القوانين المقيدة للحريات وحرية الصحافة هي أعز ما يملكه أي نظام مستبد"، وكان دائما ما يحدثنا عن أن معارك حرية الصحافة معارك طويلة ومستمرة، ولا تحسمها الضربات القاضية، بل نكسب جولاتها بالنقاط. وكنت أتصور أن ثورة يناير قد جعلتني أستعد لوداع نصيحة أستاذنا الذي نحتفل اليوم بعيد ميلاده أيضا وهي مصادفة لا يستحقها غيره لنحصل على حرية صحافة غير منقوصة، لكن حكمته ودرايته كسبت حماسي. وبهذه المناسبة أيضا أتذكر شيخ القضاة يحيى الرفاعي، الذي دافع عن حرية التعبير والصحافة، وأعتبرها مقدمة ضرورية لا غنى عنها لاستقلال القضاء، الذي قال: خير ما يكتبه الصحفي كلمة تدعم الثقة العامة في القضاء وتدعم استقلاله، وأن خير ما يصدر عن القاضي حكم حرية الأفراد في التعبير حتى لو تضمن نقدا لشخص القاضي أو حكمه. شيخ القضاة الذي نذكره اليوم هو الذي كان دائما يذكرنا من غير ثورة ومن غير برلمان ما بعد الثورة أن نقد الحكام ولو بالباطل، ولو اتسم بالشطط والمبالغة أمر مطلوب لصالح البشرية، وأن قيام المواطن والصحفي بواجبه في نقد الحكام يماثل ويعادل قيام الموظف بأداء واجبه الوظيفي، وأنه لا بأس من إساءة الظن بالرجل العام، وأن ذلك مظهر من مظاهر شدة شعور المواطن بالواجب العام، وتلك هي مهمة الصحفي.
تحية إلى الشيخين الجليلين بهذه المناسبة، وتحية إلى كل الذين ناصروا هذه الحرية ودافعوا عنها، ودفعوا ثمنا غاليا للتمسك بها.