د. هشام عبد الصبور شاهين يكتب: أوهام الإبداع ! د. هشام عبد الصبور شاهين تصاعدت في الآونة الأخيرة المخاوف والهواجس من خنق حرية الإبداع في مصر، إن سيطرت الأغلبية البرلمانية ذات التوجه الإسلامي على لجنة كتابة الدستور، وأبدى العديد من الفنانين والأدباء و(المبدعين) قلقهم وتخوفهم من أن يُكتَب في الدستور نصوصٌ تقيد إبداعهم وحريتهم في التعبير.
ومن الواضح أن أحدا لم يعلن قلقه على ما يسمى حرية الإبداع إلا أعضاء هاتين الفئتين؛ الفنانون والأدباء، وهذا الاقتصار يعكس توجه ثقافة المجتمع المصري كله منذ بداية المرحلة أول خمسينيات القرن الماضي، حيث اقتصر وصف (الإبداع) على إنتاج (المبدعين) المجالين فقط من مجالات الحياة، فقبل تلك المرحلة كان الإبداع في كل مجالات الحياة المصرية منذ أوائل القرن التاسع عشر، أي منذ حكمت مصر أسرةُ محمد علي باشا، هل استغربت هذه الملاحظة عزيزي ؟ خد عندك..
ألا ترى بعينيك المستوى الخارق من الإبداع المصري في هندسة معمار مباني وعمارات وسط البلد القديمة ؟ واجهاتها وزخارفها وتصميمات شرفاتها ونوافذها تماثل عمارات شوارع الشانزيليزيه والحي اللاتيني في باريس، والإبداع الهندسي والمعماري في مصر يتجلى في المباني التي ورثناها عن عهود الملكية، قارن بين كوبري قصر النيل بأسوده البرونزية الأربعة، وبين كوبري بنها العلوي؛ أيُّ جمال وأي إبداع في الأول، وأي مسخ وقبح في الثاني ! إذهب حضرتك إلى مدينة المنصورة، في الشارع الرئيسي قبل أن تصل إلى مبنى المحافظة؛ وعلى ناصية شارع قناة السويس، سترى قصرا رائع البنيان بأعمدته وشرفاته وزخارف واجهاته ونوافذه وحدائقه، هذا هو قصر إبراهيم باشا الشناوي الذي بنته عائلة الشناوي منتصف عشرينيات القرن الماضي، وبقي القصر شامخا بإبداع من بناه، حتى صادرته لجان انقلاب يوليو 52، فأصبح مكتبا لمكافحة المخدرات بمديرية أمن الدقهلية؛ كما كتب على اللافتة القبيحة المعلقة على واجهته ! ونفس كارثة الإبداع الناصري حلت بمئات القصور الجميلة من العهد الملكي، فبعد نهب محتوياتها من الأثاث واللوحات والتماثيل والمقتنيات؛ منها ما أصبح أقساما للشرطة، وأخرى مقار للمحاكم أو الشهر العقاري أو مدارس حكومية، وأهملت هذه القصور بالطبع وانعدمت صيانتها وانتهت..
أما إذا قارنّا بين الإبداع في الزراعة أيام محمد علي باشا ومن تلاه من الحكام المخلصين؛ وحالها المؤسف اليوم؛ فسنُصدَم بالتدهور التدريجي الذي حدث فيها منذ تخريبها بتفتيت الملكية بقانون ( الإصلاح الزراعي )، ثم القضاء عليها حين اعتمدت وزارة الزراعة على الشتلات والتقاوي والبذور الإسرائيلية، كمظهر من مظاهر التطبيع مع العدو، ثم وجّهت الوزارة المزارعين إلى التحول إلى زراعة (الجناين)، فزرعوا الفواكه وأعرضوا عن القمح، ثم كانت آثار الإبداع الناصري في الزراعة حين بدأ الفلاحون؛ ملاك الأرض الجدد في استثمار الأرض في غير الزراعة، منهم من جرّفها لحساب مصانع وقمائن الطوب الأحمر، ومنهم من بوّرها ليبيعها أرضا للمباني، ووصل الأمر إلى أن اكتست أرض مصر الخضراء بلون الطوب الأحمر الكئيب الذي تراه كلما سرت على الطريق الدائري في القاهرة الكبرى، أو على أي طريق كان زراعيا في مصر. والإبداع في مجال – كالري مثلا – لا وجود له في جمهوريات بلدنا الثلاث المتعاقبة، إذا ما قارناه بما أبدعه مهندسو الري في عهد إسماعيل باشا فقط، فقد حُفر في عهده مائة واثنتي عشرة ترعة، أهمها ترعة الإبراهيمية بطول 267 كم، وتمتد من أسيوط حتى بني سويف، والترعة الاسماعيلية، والرياح المنوفي والبحيري وترعة المحمودية، ثم أنشأ على هذه الترع والرياحات 426 قنطرة، منها 150 قنطرة في الوجه القبلي، و276 في الوجه البحري، أكبرها قناطر التقسيم في ديروط، وأصلح بعض العيوب في القناطر الخيرية التي بناها جده محمد علي، وتقدر المصادر الموثقة الزيادة في رقعة الأرض الزراعية في عهد إسماعيل بمليون فدان ! أين ذهبت هذه الأراضي يا سادة ؟
أما عن الإبداع في الآثار وحمايتها، فسأذكر لحضرتك موقفين للمقارنة فقط، موقف الخديو إسماعيل حين بدأ بناء دار الآثار (المتحف المصري الآن) عام 1869، وتم البناء في عهد خلفه الخديو سعيد، ليكون أول متحف في العالم أنشئ ليكون متحفا، أي إنه لم يكن قصرا تحول إلى متحف، وضم في أروقته بعد بنائه بأكثر من خمسين عاما؛ أي في عهد الملك فؤاد، مجموعة آثار (توت عنخ آمون)، المجموعة الأكمل والأجمل في التاريخ الإنساني كله، إذ اكتشفها عالم الآثار البريطاني (هوارد كارتر) في نوفمبر 1922، وبها من الحلي والأقنعة الذهبية والقطع الأثرية والتماثيل الآلاف، لم تطلها أيدي اللصوص عبر ما يقارب 3000 سنة، ثم.. وفي عهد جمهورية مصر العربية؛ صار الإبداع في سرقة الآثار وبيعها لصالح الكبار، وأبدعت وزارة الثقافة في إطلاق الوعود والتصريحات بإنشاء المتحف المصري الكبير، ولم يقم حائط واحد من بنائه في أكثر من عشرين عاما، هي عمر الوعد وعمر الوزارة وعمر التجارة، أما آثار توت عنخ آمون التي لا يماثلها كنز في التاريخ؛ فقد أبدعت عقلية وزارة الثقافة؛ غير المأسوف على رحيلها؛ بدعة إخراج القطع الأثرية الفريدة لتجوب العالم في معارض قد لا تعود منها أبدا، ومنذ عدة أيام نُشر في الأهرام أن قطع توت عنخ آمون ستعود من اليابان بعد أن قضت عشر سنوات في معرض هناك ! وعود إلى مبدعي زماننا الخائفين على إبداعهم من الإسلاميين، أي إبداع تخافون عليه يا سادة ؟ هل هو الإبداع في كتابة روايات الشذوذ والهجوم على الأديان وتسفيه القيم ؟ هل هو كتابة الشعر بلا قافية وبلا وزن ودون الالتزام ببحور الشعر العربي ؟ هل هو الإبداع في إنتاج الأفلام السينمائية ؟ لقد اضمحل هذا الإنتاج عددا ومحتوى، أداء ونصا، أخلاقا وقيما، إنتاجا وفنا، حتى أصبح معظمُها لا يتعدى (سبوبة) لمن يعملون فيه، وكذلك معظم الأعمال المسرحية، وفي كلا المجالين أصبح احتواء العمل على الإفيهات والقفشات الجنسية هو أساس انتزاع الضحك من الجماهير التي لا تجد غير هذا الغثاء لتشاهده، هل شاهدتم أفلام نجيب الريحاني أو مسرحيات فؤاد المهندس ؟ ذاكروا أفلام شئ من الخوف والزوجة الثانية وثرثرة فوق النيل وبداية ونهاية، أدرسوا أفلام صلاح أبو سيف وحسين كمال وهنري بركات، من فضلكم.. لا تتحدثوا عن الإبداع في هذا المجال لأنكم أبعد ما تكونون عنه.
أما في الأدب والشعر؛ فنظرة واحدة إلى عدد المفكرين والأدباء والشعراء الذين (يُحسِنون) كتابة اللغة العربية، أو (يتقنون) قراءتها دون أخطاء في النحو أو في النطق، يعرّفكم أين أنتم من مستوى الإبداع الحقيقي، فالمبدعون الحقيقيون في هذا المجال؛ والذين ولدوا وتعلموا في عهد الملكية، يعدّون بالمئات، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، علي محمود طه، إبراهيم ناجي، كامل ومأمون الشناوي، أحمد شفيق كامل، أمل دنقل، صلاح عبد الصبور، حسن البنا، نجيب محفوظ، إحسان عبد القدوس، سيد قطب، طه حسين، توفيق الحكيم، عباس العقاد، يوسف إدريس، المنفلوطي، الرافعي، محمد عبد الحليم عبد الله، علي أحمد باكثير، جمال حمدان، خالد محمد خالد، عبد الصبور شاهين، عبد الحليم محمود، زكي نجيب محمود، مصطفى محمود، جرجي زيدان، يحيى حقي، عبد الوهاب المسيري، والمئات غيرهم.. أبدعوا كلٌ في مجاله، في التاريخ والاجتماع والأدب والرواية والقصة القصيرة والمسرحية والفلسفة والشعر والفكر واللغة والدين، ومن أسفٍ أن كل هؤلاء قد انتقلوا إلى رحمة الله، وتركونا ننعي حالنا الذي وصلنا إليه؛ ساحة أدبية وشعرية وفكرية خاوية على عروشها، إلا من القليل القليل من الأصالة، والكثير الكثير من الغثاء. أما ما يخاف منه هؤلاء الكثير؛ ويستشهدون بالاعتداء على الراحل نجيب محفوظ، ونفى نصر أبو زيد؛ وقتل فرج فودة، ليبرروا خوفهم على أنفسهم وعلى الثقافة والمثقفين، وعلى الإبداع والمبدعين؛ فلهم أقول: لا تخافوا على إبداعاتكم فليست سوى أوهام في عقولكم أنتم، ولا تخافوا على ثقافتكم فليست تمت لمعنى الثقافة الحقيقية بِصِلة، والقانون الإلهي هو الذي سيتحقق رغم ادّعاءاتكم: ( فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ) - الرعد 17 ... واسلمي يا مصر.