أحمد أبودوح أجمع المتخصصون والشخصيات العامة وممثلى كافة أطياف المجتمع على ضرورة أن يأتى غالبية أعضاء الجمعية التأسيسية لوضع الدستور الجديد من خارج البرلمان، وذلك لعدة إعتبارات يأتى فى مقدمتها أن الدستور هو المشرف الأول على تحقيق مبدأ " الفصل بين السلطات "، وبناءً عليه يكون من غير المعقول أن تستحوذ إحدى هذه السلطات – وهى السلطة التشريعية ممثلة فى البرلمان – على مقدرات اللجنة التى سوف يكون منوطاً بها صياغة هذا الدستور . غير أن المشاركين فى الإجتماع المشترك الذى عقد بالأمس وجمع بين غرفتى البرلمان كان لهم رأى أخر، حيث خرج الإجتماع بإعتماد صريح وواضح وهو أن تتشكل اللجنة المكونة من مائة عضو بحيث يكون نصفها من داخل البرلمان ونصفها الأخر من خارجه معتمداً فى ذلك على أغلبية جاءت عن طريق صناديق الإقتراع . فإذا بدأنا التفكير خارج إطار " إعادة إختراع العجلة " الذى وضعنا أنفسنا بداخله وتبنينا مبدأ " البناء على ما سبق "، وقمنا بدراسة دقيقة للتجارب التى سبقتنا فى عمليات وضع الدستور الناجحة، سوف نكتشف أن أغلبها قد قام على إنتخاب جمعية تأسيسية إنتخاباً مباشراً من قبل الشعب، أو تحويل البرلمان نفسه إلى جمعية تأسيسية لوضع الدستور ثم طرحه للإستفتاء بعد ذلك، أو تحويل الجمعية التأسيسية المنتخبة من قبل الشعب إلى برلمان مؤقت – مثل ما هو معمول به فى تونس الأن – يكون عليها الإنتهاء من كتابة الدستور الذى سوف يتم على أساسه بناء باقى مؤسسات الدولة . والحقيقة أن إختيار ال 50% - 50% الذى أقره الإجتماع البرلمانى بالأمس يتسم بشىء من الغرابة لأنه يعتبر هو الإقتراح الأول من نوعه فى هذا الشأن، بالإضافة إلى ما يشوبه من عيوب سياسية ودستورية أيضا قد تنعكس فى المستقبل على الصياغة النهائية التى سوف يخرج بها الدستور . وعلى الرغم من وجود بعض التجارب الناجحة التى إعتمدت أعضاء الجمعية التأسيسية لوضع الدستور من داخل البرلمان بالكامل والتى نتج عنها فى النهاية دساتير مستقرة نسبياً، إلا أنه بالمقارنة بين التجربة الحالية التى نمر بها فى كتابة الدستور المصرى الجديد وبين تلك التجارب السابقة عليها سوف نلاحظ عدة فوارق أساسية بينها، منها ما يلى : 1-أن تلك البرلمانات لم تكن تحتوى على أغلبيات سياسية تحمل أى خلفيات أيدولوجية من الممكن أن تنحرف بالدستور - الذى من المفترض أن يحقق مصالح جميع أطياف ومكونات المجتمع – إلى السعى نحو تحقيق مصالحها الضيقة فقط . 2-أن الأغلبيات الممثلة داخل تلك البرلمانات لم تتعدى كونها أغلبيات حزبية حيث أنها لم تكن ترتبط بشكل أو بأخر بالنقابات المهنية والعمالية ولا بمنظمات المجتمع المدنى الأخرى فى هذه الدول ولم تسعى للسيطرة عليها كما يحدث فى مصر الأن، وبالتالى فإن ذلك من شأنه أن يطرح بأفضلية إقتراح نسبة ال 50% من خارج البرلمان جانباً إذا ما أراد تيار الأغلبية البرلمانية الإستعانة بممثلى تلك النقابات وأساتذة الجامعات والقانونيين الموالين له لكى يشكلوا أغلب الأعضاء الذين سوف يمثلون من خارج البرلمان . 3-أن الإقتراح الذى تم التصديق عليه بالأمس سوف يضع الدستور أمام إشكاليات قانونية ودستورية عدة إذا ما أخذنا فى الإعتبار توفر إمكانية قبول المحكمة الدستورية العليا للطعن المقدم على دستورية بعض مواد قانون إنتخاب أعضاء هذا البرلمان، أى أنه حينئذ سوف يكون نصف عدد المشاركين فى كتابة ذلك الدستور قد تم إختيارهم بالمخالفة لأحد أهم مبادىء الدستور الذى سوف يساهمون هم فى صياغته.. وهو مبدأ " تكافؤ الفرص " . فإذا كان من المنطقى أن لا تضع الأغلبية الدستور بل تشارك فقط فى كتابته، فلماذا إذن هذا التكالب من قبل الأغلبية البرلمانية على التمثيل بأكبر نسبة داخل الجمعية التأسيسية ؟! وهل مازال الإخوان والسلفيون يعتقدون أن الديمقراطية تتلخص فقط فى عملية إنتخابية قد أتت بهم إلى برلمان ما بعد الثورة ومن ثم يكون من حقهم بالتبعية أن يقرروا حاضر البلاد ومستقبلها ؟! الديمقراطية هى عملية معقدة تتطلب بناء الفرد الذى بذل التضحيات من أجلها، بحيث يكون قادراً أولاً على الوفاء بإلتزاماتها بما ينتج عنه بعد ذلك الوصول إلى أرضية صلبة يمكن أن يتم الشروع فى بناء مؤسسات الدولة عليها بما يتناسب مع متطلبات المجتمع الذى يأتى الفرد ليمثل أحد مكوناته الأساسية . هذا ما تقوم الدول بإتباعه والبناء عليه فى المراحل الإنتقالية التى تمر بها نحو بناء نظم ديمقراطية حديثة.. أما ما يحدث فى مصر الأن فهو عملية ولادة لديمقراطية تقوم بالأساس على مبادىء المواطنة والتعددية ولكنها تخرج – للأسف - من رحم دكتاتورية أيدولوجية تتبناها الأغلبية السياسية . المثير للدهشة هو تصريح زعيم الأغلبية فى مجلس الشورى بأنه " من الطبيعى أن تتغير الدساتير من فترة إلى أخرى " عند سؤاله عن ما سوف يحدث فى المستقبل إذا ما كان الدستور الذى سوف تضعه هذه اللجنة غير معبر عن الأغلبية التى سوف تأتى لاحقاً !.. إذن فنحن نتعامل مع عقلية لا ترى حرجاً فى إضفاء الصبغة السياسية والفكرية لتيار الأغلبية – أياً كان هذا التيار – بما يحقق مصالحه الوقتية، ولا تجد أدنى مشكلة فى أن يمر المصريون بعد ذلك بنفس التجربة العصيبة لصياغة دستور جديد مرة أخرى... وهكذا ! من الواضح إذن أن الثورة قد إنحرفت كثيرا عن مسارها الصحيح، وأنها على ما يبدو سوف تهدر وقتاً طويلاً حتى تتمكن من العودة إلى هذا المسار مرة أخرى، وهى نتيجة طبيعية لمعطيات عدة تشى بأننا ربما نقف الأن أمام عملية صياغة لدستور مؤقت سوف تتلخص مهمته الأساسية فقط فى تسيير الأمور حتى نصل فى النهاية إلى مرحلة كتابة دستورنا الدائم !