صحيح أن الزبون دائما على حق، لكن ليست الأغلبية دائما على حق! احترام إرادة الشعب مبدأ لا فصال فيه، وأى التفاف حوله هو ضرب للديمقراطية وعصف بأبسط قواعدها، حيث إن الأغلبية هى التى تحكم وتدير طالما جاءت بانتخابات حرة. أن تكون أغلبية مستخفّة بالأقلية فهذا لا يعنى نفى حقها فى الحكم وإدارة البلاد، لكن يتطلب بالطبع نضالا ضدها حتى تسقط أغلبيتها فى الانتخابات التالية! ومع ذلك فليس معنى هذا إطلاقا أن الأغلبية على حق! قد يصوت الملايين لمرشح أو لحزب فيحصل على الرئاسة أو البرلمان، لكن هذا لا يعنى أنه بالضرورة اختيار صحيح! أن يطلب الملايين من الناس إجراء أو قرارا فتتم الاستجابة له، فهذا لا يعنى إطلاقا أنه بالتأكيد إجراء أو قرار صحيح! الحاصل أننا فى مرحلة انتقالية فعلا، وفى أثناء الانتقال والعزال من مرحلة إلى أخرى تصبح الأمور ضبابية فى أغلب الأحيان! من بين هذه الأمور الضبابية أننا نتعامل مع انتخاب الشعب المصرى للإسلاميين (والشعب التونسى كذلك) على أنه اختيار صحيح، وعلينا أن نتصرف وفقا لما يريده الشعب، والمؤكد لدىّ أننا لا بد أن نحترم اختيار الناس ونسلم به، لكن لا نستسلم له باعتباره الأصح والأفضل، بل مهمتنا أن نشرح للناس أن اختيارهم -للأسف- غير صحيح وتم فى ظروف تستدعى إعادة النظر والتأمل، مرة أخرى هذا لا يشكل على الإطلاق استخفافا باختيار الناس ولا رفضا له، بل لا بد من احترامنا الكامل لوصول الإسلاميين إلى الحكم ومساعدتهم والتعاون معهم فى مسؤوليتهم على إدارة البلاد، وذلك بأن نعارضهم بصدق وبحق وبضمير، فالمشكلة أن هناك مثلا من قرر أن يسهم فى تغيير التيار السلفى بمدحه بل وبنفاقه، فأرى من يشكر ويحيّى ويمدح حزب النور مثلا لأنه فصل نائبه الكاذب، ولا أعرف أى مبرر لهذا المدح، فهل كان مطلوبا أن يتستر الحزب عليه أو ينكر بينما الفضيحة ثابتة حتى التلبس؟ لقد تصرف حزب النور ليقلل خسائره من هذه الفضيحة بفصل نائبه، بينما قرر بعضنا العاقل أن يجعل من هذا التصرف البديهى سبيلا لتحية الحزب (طيب وما رأيكم فى تحريم الحزب عمليات التجميل؟). عموما يبقى أن الأغلبية ليست دائما على حق، كونها تصوت فى البرلمان لصالح قانون فهذا لا يعنى أنه قانون صالح وعظيم، بل يمكن أن تأتى أغلبية جديدة وتلغيه، وقد يخرج الملايين من الناس فى مظاهرة ضده. إذن نحن مع احترام كامل لإرادة الأغلبية، لكن لا يمكن أن نجعلها مقدسة، ولا علاقة لهذا أرجوكم بالأحاديث النبوية الشريفة. عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يد الله مع الجماعة»، وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الله لا يجمع أمتى على ضلالة، ويد الله مع الجماعة» صحيح الجامع برقم (1848). وبصرف النظر عن السياق الذى قيلت ورويت فيه هذه الأحاديث، وهى فترة الصراع الكبرى فى التاريخ الإسلامى التى تحولت إلى حرب أهلية بين الصحابة رضوان الله عليهم أدت إلى قتل عشرات الآلاف من الصحابة والتابعين ومن المسلمين عموما، وهو ما يعطى دلالة عن رغبة -مقدرة- فى دفع الناس للتوحد ونبذ الفرقة، فإن الجماعة المقصودة هنا فى حديث «يد الله مع الجماعة» ليست بمعنى الغالبية ولا الأغلبية السياسية. قال أبو إسحاق الشاطبى: اختلف الناس فى معنى الجماعة المرادة فى هذه الأحاديث على خمسة أقوال: أحدها: أنها السواد الأعظم من أهل الإسلام، والثانى: أنها جماعة أئمة العلماء المجتهدين، والثالث: أن الجماعة هى الصحابة على الخصوص، والرابع: أن الجماعة هى جماعة أهل الإسلام إذا أجمعوا على أمر، والخامس: ما اختاره الطبرى الإمام، من أن الجماعة هى جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، إذن ليس مفهوم الجماعة هنا واحدا، فضلا عن أن فهم تعبير «يد الله معهم» مفتوح على تأويلات كثيرة لا تعنى إطلاقا قداسة لرأى الجماعة أو الأغلبية، فكم من مرة اجتمعت الأغلبية أو الجماعة على شىء وكان وبالا وضياعا على المسلمين! أما «ما اجتمعت أمتى على ضلالة» أو «على باطل» فهذا من وجهة نظر أخرى يعنى إعلاء لقيمة الاختلاف لا التوحد فى رأى أو حول موقف، فمهما كان الإجماع على شىء فهناك من يخالفه ويعارضه، وقد يكون المعارض هو صاحب الحق هنا، ومن ثم يتحقق مراد النبى صلى الله عليه وآله وسلم فى أن الأمة لا تجتمع على باطل، فدائما هناك علماء أو مجتهدون أو مفكرون أو عابدون أو مواطنون يرون غير ما يرى عوام وعموم الناس فينقذون الجماعة من خطئها إن كان خطأ! دعنى أذكّرك بأن القرآن الكريم يقول لنا إن الأغلبية ليست دائما على حق، بل أكثر الناس لا يشكرون: «إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ» (البقرة 243). الأغلبية على عيننا ورأسنا وعلى دماغنا دائما، لكن أحيانا على حق!