عمر طاهر مر على وجود برما فى أسوان يومان. اتصلت به لأسأله عن أهم اكتشافاته فى هذه الفترة فقال: شخص يمتلك فاترينة لبيع ساندوتشات الطعمية على بعد خطوات من بوابة السوق، يعمل لمدة ساعتين حتى ينفد مخزون العجين. زحام هائل والمحظوظ فقط من يلحق بقرصين. اندهشت من كلام برما فقال: الطعمية سحر مصرى، لا أعرف من أين أتى اسمها لكننى أعتقد أنه مشتق من مصطلح (طعام العامة) إذا دمجت الكلمتين مع قليل من التحريف المصرى الشائع عبر السنوات ستحصل على كلمة (طعمية). أفخر بكونى واحدا من العامة فى مواطن كثيرة أهمها اللحظة التى أقف فيها أمام الطاسة، ممسكا بقرطاس من ورق المصرى اليوم. قلت له ومن أين يأتى السحر؟ فقال: فى العالم كله لا يوجد ما هو أشهى من نصف رغيف بلدى طازج يحتفظ بسخونته، تلقى بداخله حبة طعمية ساخنة وتسندها بشريحة من الطماطم البلدى ثم تزينها بنطرة ملح ونطرة شطة، هل تريد مزيدا من الإعجاز؟.. ضع معهما شريحة من الباذنجان المقلى. الباذنجان معجزة أخرى به شىء يتماسّ مع الطفولة، فهو لا يحتاج إلى أسنان بالمرة ويفرز سكرا ما فى جنبات الفم دون تجزيع، سكر لا يثير العطش لكن يبل الريق بطريقة ما. اليوم ضربت ساندوتش ساخن، كانت قطعة الطماطم الباردة بداخله بمثابة لمسة حانية مثل تويتات هبة رؤوف عزت. كنت أسند القضمة بقضمة أخرى من حبات الفلفل الحار المقلى ثم أستعين على البلع برشفة من كوب شاى أحمر سكر زيادة يتصاعد منه البخار حتى كاد يختلط بدموعى من فرط اللذة. أنهيت طعامى، ثم طلبت من المقهى كوبا جديدا من الشاى لكن بالنعناع هذه المرة وجلست فى الشمس أتأمل السعادة التى وهبنى الله إياها.. رحيل العسكر نفسه لا يستطيع أن يقودنى إلى تلك الروحانية التى وضعنى فيها طعام إفطارى وجعلنى كأننى فى حضرة صوفى خفيف الدم.. فالحمد لله. قلت له: يرحمكم الله. ضحك برما ثم قال: سنموت قبل أن نعرف ما الذى يجعل طعمية الشارع تتفوق على طعمية البيت، لكننى أستطيع أن أميز طعمية شارع عن شارع آخر بلونها، فكلما كانت ذهبية تتآلف فى حضنها حبات السمسم كفصوص أحجار كريمة مع حواف ذات قرمشة بفعل قشر الكسبرة الناشفة كانت السعادة حتمية، ولكن عندما يذبل لونها ويسود أعرف أن صاحب المحل أفرط فى استخدام الكسبرة الخضراء والكرّات أثناء صنع العجينة، وهنا سينالك من شر الطعمية أكثر مما سينالك من خيرها، ولكن فى كل الأحوال ستظل طعمية البيت باهتة لأنها تسعى إلى الكمال، ولا أحد كاملا فى الكوكب. طعمية الشارع مصدر رزق ولا حيلة فى الرزق، بأن تبحث عن زيت نظيف لم يسبق استخدامه ومقادير مضبوطة وخضراوات مغسولة جيدا وفول مدشوش منتقى بالواحدة ومناديل ورقية تجفف فيها الحبات بعد انتشالها من الطاسة. سر عظمة طعمية الشارع فى الشاب ذى الشبشب ورجل البنطلون المرفوعة يجلس على كرسى الحمام أمام المحل يقطّع الخضراوات فى بستلة الغسيل، وماكينة عجن الخلطة المستوحاة من فكرة الأطراف الصناعية بيد معدنية واحدة تهرس العجين فى الصاج ونصف السيجارة الموضوعة إلى جوار طاسة القليّة ينتقل بينها الرجل القلاى وبين العجين بخفة ومهارة، ثم تلك النظرة الخبيرة التى يمنحها للحبات، وهى تتقافز فى أمواج الزيت المغلى حتى يمد يده بالمغرفة الشبيكة التى كللها السواد حتى يرفع الحبات بها ثم يخبط بها طرف الطاسة بحكمة وثقة قبل أن يلقى بها فى المصفاة فتتخاطفها الأيادى. إنها عظمة طقس يشبهنا تماما، وضع فى بالك دائما أنه كلما كان المطعم متواضعا كلما كانت الطعمية أشهى، المطاعم البسيطة تقدم الطعمية بفلسفة «كل واشكر»، بينما المحلات ذات الواجهات الزجاجية التى تقدم الطعمية إلى جانب الشاورما فهى تقدمها بفلسفة «كل وانجز». قلت له: طب والطعمية الشامى يا برما؟، فقال: الفرق بين الطعمية المصرية والطعمية الشامى مثل الفرق بين رمضان فى القاهرة ورمضان فى بيروت. قلت له: ألا تراها طعاما مخترعا من قبل العامة كما قلت ليملؤوا به بطونهم فقط دون أى قيمة تذكر؟، فقال: لقد ربتنا الطعمية كما ينبغى على مدى سنين عمرنا كوجبة غذائية متكاملة. البروتين موجود فى الفول، الفيتامينات موجودة فى الخضراوات، الدهون موجودة فى الزيت، مضادات الأكسدة موجودة فى البقدونس والسمسم، النشويات موجودة فى الخبز.. عايز إيه تانى؟ قلت له: السكريات. فقال: وهل تستقيم الطعمية بدون كوب الشاى؟، سكريات وكافيين كمان يا معلم. قلت له: كنت أتوقع منك حديثا فى الشأن العام. فقال: هذا هو الفرق بينى وبينك.. أنا أسعى لفتح النفس بينما أنت تسعى لسدها.