د. نادر فرجاني يكتب:انتخابات رئاسية لتكريس الحكم التسلطي! د.نادر الفرجاني قامت ثورات المد التحرري العربي، ضمن ما قامت من أجله، لإنهاء منطق توريث الحكم في البلدان العربية، باعتباره أحط اشكال تدويم الحكم التسلطي، وإقامة نسق من الحكم الديمقراطي الصالح عوضا عنه. ومن أهم وسائل إقامة الحكم الديمقراطي الصالح اختيار مؤسسات الحكم وقياداته عبر الانتخاب الحر المباشر من بين مرشحين عدة يفاضل بينهم الشعب بحرية وشفافية. ونبدأ بتوضيبح أن التوريث يأتي على صنفين. الأول هو توريث منصب رأس الحكم للنسل الطبيعي لمتسلط حاكم أو سابق، ما يحوِّل النظام الجمهوري الذي دفعت الشعوب أثمانا غالية لإقامته عبر نضال طويل، إلى ملك عضوض منشئا أسرا ملكية لا تستحق شرف حكم البلاد بسبب آثام الحكم التسلطي الممتد، التي لا مناص من وقوعها، حيث السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. أما الصنف الثاني لتوريث الحكم، وهو أخبث لأنه أشد مراءاة، فيقوم على الإبقاء على البنى القانونية والسياسية للحكم التسلطي واستبدال واحد من وجوه الحكم التسلطي بوجه آخر ساقط قام الشعب للتخلص من استبداده بالبلاد والعباد. وغني عن البيان أن هذا الصنف من توريث الحكم التسلطي يجهض واحدا من أهم غايات الثورات الشعبية للمد التحرري العربي العظيم، أي الحرية وبناء الحكم الديمقراطي الصالح. وقد شهد اليمن منذ أيام قليلة "انتخابات رئاسية" صورية لمرشح واحد سُميّ "توافقيا". والمخجل أن يجد واحدا من الناس الصفاقة اللازمة للحديث عن إنتخابات بينما هناك مرشح وحيد، والأشد صفاقة أن يعتبره البعض انتصارا مؤزرا للديمقراطية، بعد ثورة شعبية رائعة استمرت لمدة عام على الطاغية الفاسد ونظامه الاستبدادي، وقدمت آلاف الشهداء وعشرات آلاف المصابين جراء قمع نظام الحكم التسلطي المنحط. فوجود مرشح توافقي وحيد يهدر شروط الاختيار الحر للشعب ومن ثم ينزع عن مثل هذا الانتخاب الصوري أي إدعاء بالاختيار الديمقراطي الحر، فليس إلا استفتاء يستدعي أسوأ سمات الحكم التسلطي النافية للديمقراطية. والحقيقة أن ما جرى في اليمن ليس إلا انتصارا، نتمنى أن يكون وقتيا، لأعداء الثورة الشعبية في اليمن من نظام الحكم التسلطي الساقط وحلفائه في نظم الحكم الرجعية العربية. هو حالة مثال على الصنف الثاني من توريث الحكم التسلطي. فالمرشح "التوافقي" الوحيد ليس إلا نائب الطاغية المخلوع المعيَّن من قِبله، من دون أي رأي للشعب، في ذلك لسنوات طوال، وتعود أصوله للمؤسسة العسكرية ذاتها، ولحزب الحاكم المخلوع الذي تسيّد البلاد لأطول من أربعة عقود بالفساد والاستبداد مخضعا المواطنين لمزيج سام من الفقر والقهر. وما زال ابن المخلوع، وأبناء عمومته، على رأس التشكيلات الأهم للقوات المسلحة مثل الحرس الجمهوري والقوات الخاصة. وبداع من يقيننا التاريخي بضرورة انتصار ثورة الشعب، نثق أن هذا الفشل لثورة شعب اليمن لن يطول به العهد. ومن يتأمل مسيرة انتخابات الرئاسة في مصر تساوره الشكوك في أن السلطة الانتقالية في مصر، أي المجلس العسكري والتيارات الإسلامية الفائزة في الانتخابات التشريعية والساعية لتشكيل حكومة، وربما لترشيح رئيس أو مؤازرة مرشح للرئاسة تنتظر منه الولاء، تدفع بمصر تجاه النهاية التعيسة ذاتها التي حلت باليمن. وها هي الساحة السياسية المصرية تشغي بطنين فكرة المرشح "التوافقي"، الوحيد، أو المكتسح للآخرين الذين قد يغامرون، عن حسن طوية سياسيا، بمنافسته، في تكرار سقيم لمسار كارثة اليمن. ومن المفيد للتدليل على زعمنا تتبع مسيرة التحضير لانتخابات الرئاسة في مصر منذ بداية المرحلة الانتقالية إثر الانتصار الأولي لثورة شعب مصر الفل، بإسقاط الطاغية المخلوع. بدأت المسيرة بالمسار المعيب، المنافي للأصول المنطقية والقانونية للانتقال الديمقراطي، والذي تبنى مسار إجراء الانتخابات التشريعية قبل وضع الدستور، وتبعه الاستفتاء على التعديلات الدستورية الذي قنن هذا المسار، بعد أن أوهم التحالف المسطر على المرحة الإنتقالية بسطاء العامة بأن الموافقة على التعديلات هي الاختيار المتدين الضامن للجنة في السماء وللاستقرار على الأرض، حتى توهم بعض السذج أن الاستفتاء يجري على المادة الثانية من الدستور التي تنص على كون الشريعة مصدر التشريع، على الرغم من أن هذه المادة لم تكن مطروحة على الإطلاق في الاستفتاء. وتبع الاستفتاء، الذي لم يلتزم المجلس العسكري بنص مواده في إعلانه الدستوري مجموعة القوانين والإجراءات التي أصدرها المجلس العسكري وضمنت اقتصار السياسة، بما في ذلك تشكيل الأحزاب على أساس ديني سافر بالمخالفة للقانون، والقدرة على الترويج الانتخابي، على التيارات السياسية القوية تنظيما والغنية تمويلا. وفيما يتصل بالرئيس فقد اهتمت التعديلات الدستورية بشخص رئيس الجمهورية وشروط الترشح للمنصب، ومدة بقاء الشخص المنتخب له في السلطة، فوق أي اعتبار بينما لم تضع، كما كان قد أعلن إبان عمل اللجنة، أي قيود على السلطات المطلقة لرئيس الجمهورية في الدستور المعيب القائم، بحثٍ من المجلس العسكري على ما يبدو. ثم قنّن المجلس الأعلى للقوات المسلحة، في إعلانه الدستوري، سلطات تنفيذية مطلقة لرئيس الجمهورية، اختص المجلس نفسه بها، فوق السلطة التشريعية طوال المرحلة الانتقالية. ويشي هذا بأن اللجنة والمجلس العسكري مالا لتكريس نظام الحكم الفردي المطلق الصلاحيات في السلطة التنفيذية، الأمر الذي يتهدد نظام الحكم في مصر بإمكان تحول أي رئيس قادم، مع الإبقاء على السلطات المطلقة لرئيس الجمهورية، بطبيعة النفس البشرية، إلى مستبد غشوم. بل يمكن أن يهدر الإبقاء على السلطات المطلقة لرئيس الجمهورية فرصة صوغ دستور جديد أفضل من ذلك المُرّقع والمرتبط بشرعية منهارة، كما أعطت التعديلات الرئيس حق تعيين نائبه وكان الأجدر ديمقراطيا، انتخابه شعبيا. وبعد ذلك حصِّن المجلس العسكري اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة من جميع أشكال الطعن على أي من قراراتها، وأوكل رئاستها لرئيس من تعيين الطاغية المخلوع فيب موقعه القضائي، ما يشي بإمكان التلاعب في مسار الانتخابات الرئاسية ونتائجها. ومما يثير القلق أيضا أن لا أحد من الذين أعلنوا عن نيتهم الترشح للرئاسة، بذل أي جهد للتعببير عن عدم رضاه عن السلطات المطلقة لرئيس الجمهورية ناهيك عن الرغبة في تقييدها حرصا على الحكم الديمقراطي ما يعني أن كل واحد منهم مشروع متسلط ينتظر الفرصة، إن دانت له. وعلى الرغم من التقافز المستميت على الوقفات الإعلامية ومحاولة استجلاب التأييد من القوى السياسية المتنفذة وعقد الصفقات معها، لم يقدم أي المرشحين "المحتملين"، حتى وقت الكتابة، للشعب برنامجا متكاملا يترشح به لرئاسة البلد الأكبر في المنطقة، ما قد يعبر عن اعتقاد جازم عندهم بأن رأي الشعب لن يكون حاسما في تحديد الرئيس القادم، ولعل الاستثناء الوحيد هو د. محمد البرادعي، وقت كان مرشحا. وما قدمه البعض تحت عنوان برنامج لم يتعد محاولات لبيع أحلام جميلة، مثل التعهد بأن تكون مصر من الدول العشر الأولي في العالم كله خلال سنوات قليلة، وليس إلا وهما صرفا لا يستند إلى تقييم واقعي أو برنامج تنفيذ ممكن. ختاما، كنا نتمنى أن تستعيد مصر، بعد قيام الثورة الشعبية العظيمة، مكانتها الريادية في الوطن العربي بوضع أسس التحول السليم نحو الحكم الديمقراطي الصالح في بلدان المد التحرري العربي، لا أن تكرر أسوأ عواقب إسقاط رأس الحكم التسلطي كما شهدتها اليمن. ولكن السلطة الانتقالية أبت علينا أن ننال هذا الشرف.