تدور الأحاديث هذه الأيام عن محاكمة الرئيس السابق، وعن التهم الموجهة إليه وعن مرافعات النيابة والدفاع، وعن كيف اختُزلت تهمه إلى ثلاث تهم؛ قتل المتظاهرين، وبيع الغاز بأقل من سعره لإسرائيل، وحصوله على عدة فيلات بأقل من أسعارها! ولو وُجد الرئيس السابق في بلد غير مصر لتعجب السامع من تفاهة التهم الموجهة إليه مقارنة بحجم الجرائم التي ارتكبها مع نظامه في مصر على مدى ثلاثين عامًا، لكننا في مصر يبدو أننا اعتدنا عدم مساءلة الكبراء والحكام، وكأن مسؤوليتهم تنتفي عندما يردون على من يسألهم ردهم الشهير: أصلي مكنتش عارف، أو محدش قاللي، أو أصل البطانة بتاعتي اللي انا محاوط نفسي بيها مبتوصليش أي حاجة مللي بتحصل. ويبدو أن هذا التبرير هو تبرير مصري خالص، سمعناه من قبل في أعقاب الهزيمة المنكرة التي منيت بها مصر عام 1967، وكان التبرير الرسمي ببساطة أصل الريس ماكانش يعرف، اللّاه ! أُمال فين اللي عارف؟ مفيش حد عارف... الوحيد اللي كان عارف انتحر. وبرغم لامحدودية ولانهائية سلطة الحاكم في بلادنا، فإنها تتقلص فجأة إلى اللامسؤولية عند وقوع المصائب والمشكلات، فالرئيس السابق – كما فعل سَلَفاه - جمع في يده كل الخيوط، وأحكم سيطرته على كل الأبواب، وامتد سلطانه إلى أفكارنا الكامنة في عقولنا، وإلى الكلمات قبل أن تخرج من أفواهنا، وحتى إلى أنفاسنا داخلةً خارجةً من صدورنا! وكنا نحن راضين متقبلين، وكذلك تقبلنا ببساطة فكرة إنه مش عارف أحوال السكة الحديد، والناس المهروسة أسفل عجلات القطارات، والدماء المراقة على الأسفلت في حوادث الطريق، ومصر قد بلغت أعلى معدل سنوي عالمي في عدد قتلى حوادث الطرق، وأصله معندوش فكرة عن البيوت التي تنهار، ولا عن طوابير العيش، ولا عن سرقات صفقات بيع القطاع العام في خطة الخصخصة، ولا عن أعمال ولديه وأسرتيهما في البورصة وتجارة الأراضي، ولا كان عنده فكرة عن مخالفات الشرطة، ولا سرقات الحكومات المتعاقبة في عهده الطويل، ولا يعرف بأن التعليم في بلده منهار، ولا إن الصحة منهارة، ولا أن الناس في بلده عايشة على البلاط أو على الرشاوي ولا أن المحسوبية في عهده أصبحت هي الأساس، ولا... ولا...، وحتى التهمة الوحيدة من كل هؤلاء الموجهة إليه وهي تهمة قتل المتظاهرين، سيكون عذره فيها أنه لم يكن يعرف، ولو أننا في أي بلد آخر غير مصر لكان هذا العذر هو جرمه الذي يجب أن يحاسب عليه. لم يكن عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتباهى بعدله ولا يبالغ في بيان حرصه على تحقيقه عندما قال: "لو عثرت بغلة في العراق لسئل ابن الخطاب يوم القيامة لِمَ لَمْ تمهد لها الطريق ؟" ولكنه كان يوضح لنا ماذا يعني أن تكون حاكمًا لمكان ومسؤولاً عنه أمام الله تعالى كما أنك مسؤول عنه أمام محكوميك. ولم يبالغ رضي الله عنه في حُكمه عندما احتكم إليه القبطي (المصري) أن ابن عمرو بن العاص أمير مصر قد ضربه بالسوط لمّا فاز عليه في سباق بينهما، مستكثرًا عليه أن يسبقه وهو ابن الأكرمين، فحكم عمر رضي الله عنه أن يقتص القبطي لنفسه من ابن الأمير (الذي ضربه)، ثم يقول له: أدرها (أي العصا) على صلعة عمرو فإنما ضربك بسلطان أبيه، فلم يكن رضي الله عنه مغاليًا في حكمه، ولم يكن ذاك حكمًا على أب يؤاخذ بما فعله ابنه، ولا حكمًا على صحابي يجب أن يسلك دروب الملائكة في حياته، بل هو الحكم الحق على حاكم مسؤول عما يحدث في إمارته، يؤاخَذ قدر ما يُؤاخَذ المخطئون من رعيته، ويعاقَب قدر ما يُعاقَبوا. ربما تمر محاكمة الرئيس السابق كما هو مرسوم لها، وأن يُعطَى صك براءته، وربما يحدث ما يخطئ ظنوننا، لكن الأهم من تلك المحاكمة - والتي لا تتعدى أن تكون سطرًا من سطور كتاب تتزاحم فيه أعماله وأفعاله سيحمله الرئيس السابق في موقف الحساب أمام ربه - هو أن ننتبه إلى هذا التهاون في حقوقنا نحن المحكومين، وأن نضع حدًا لهذه الجملة التي يختبئ وراءها كل الحكام، جملة (أصلي ماكنتش عارف)، ولا زلنا حتى الآن نسمعها وبقوة؛ كيف حدث ما حدث أيام أحداث مجلس الوزراء؟ أصل الحكاية إن العسكري كان متوتر والمسؤول عنه مش عارف، طيب وأحداث محمد محمود؟ مفيش حد كان عارف، طيب وأيام ماسبيرو؟ برضه مكانش عارف، وحتى أزمة البنزين التي تغازلنا هذه الأيام، يكون الرد بسهولة: مفيش حاجة ومحدش عارف... أظن أنه آن الأوان أن ننظر إلى النصف الأول من الحديث الشريف والذي لا نعتبر دومًا إلا نصفه الآخر: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، فالإمام راع ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهل بيته ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسؤول عن رعيته، وكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته".