أخيرا انتقلت للسكن فى شارع قصر العينى. أحتاج وقتا طويلا حتى أندمج مع جيرانى الجدد فى كل مرة أغير فيها سكنى، خلال هذا الوقت يمنعنى الخجل من أن أقدم جملة مفيدة بلا ارتباك، لذلك أكتفى بأن أبادلهم طيلة الوقت ابتساما حقيقيا صادقا، حتى عندما يكون لدى أحدهم حالة وفاة تصيبنى لعثمة داخلية قبل أن أقدم جملة التعازى المألوفة، فكنت أستعيض عنها بابتسامة أخرى لكنها أكبر من كل مرة. فى مساء السبت 30 يناير كان كل من ابتسمت فى وجوههم خلال الفترة الماضية يقفون إلى جوارى أمام باب العمارة. بعد أن ذاع أمر السرقة والبلطجة وهروب المساجين وحتمية تكوين لجان شعبية، وجدنا أنفسنا نقف فى الشارع نتعرف على بعضنا البعض للمرة الأولى، كان التوتر يخفى ودّا ما، ولم يحُل الذعر بيننا وبين السخرية من طقم سكاكين المطبخ الذى يقف به رجالة بشنبات أمام بيوتهم، الضحك كان ملهما ورفع مستوى التواصل الفكرى بيننا فتغيرت خطة التسليح كالتالى: سحب الحواجز الحديدية الموجودة أمام البنك المجاور لعمارتنا واستخدامها فى غلق الشارع بالطول، تجميع صناديق البيبسى والكوكا كولا الفارغة من كل شقة ووضعها خلف إحدى السيارات التى تركن أمام العمارة، بحيث تكون هذه السيارة ساترا يمكن من خلفه قذف المشتبه بهم بالزجاجات فى منتصف الرأس تماما، سرعة العثور على عدد كاف من السنج والصافوريات والسيوف والكزالك والشوم العادى والمدبب، وتوزيعها على كل من فى الكمين. التنسيق مع اللجان الشعبية الموجودة «قبل/ بعد» لجنتنا لإحكام الرقابة على أى سيارة تمر، والاتفاق على علامة ما، تؤكد لنا أنه مر بالفعل من اللجنة التى تسبقنا وأنه خال من أى مشاكل، كنا فى البداية قد اتفقنا على أن تكون العلامة هى رفع مسّاحات السيارة، وهى فكرة سرعان ما ثبت فشلها بعد أن اكتشفنا أن معظم السيارات دون مسّاحات أصلا، ثم اتفقنا على أن تكون إرغام قائد السيارة على أن يسير وشنطة سيارته مفتوحة وهو أمر صعب السيطرة عليه فى بعض السيارات الحديثة التى تنغلق شنطها أتوماتيكيا بمجرد السير، ثم اتفقنا على أن تكون كلمة سر يقولها قائد السيارة بنفسه أو من يرافقه بعدما اكتشفنا أن أول قائد سيارة كان من الصم والبكم، وفى كل الأحوال يتم التنبيه على قائد السيارة أن يجتاز كل اللجان القادمة والرخص فى يديه ونور الصالون مفتوح. كانت كلمات السر تتغير كل فترة بدأت ب«سبع الليل»، ومرت ب«الأشباح»، وانتهت ب«مصرى أصلى». رفض كل الاقتراحات المؤذية مثل العرض الذى تقدم به أهلى عبر اتصال هاتفى من سوهاج يعرضون فيه نقل قطع خفيفة من البنادق الآلية لدعم عمل اللجنة، أو اقتراح الرفاق فى السيدة زينب بأن يمدونا بفرد حى أو حتى فرد خرطوش، لكن فى الوقت نفسه تم اعتماد بعض الاختراعات التى تبناها بعض الرفاق، مثل عصا المقشة الطويلة المثبت فى نهايتها سكين حاد بحيث يمكن استخدامها كرمح، أو الكرابيج البلدى المنقوعة طوال الوقت فى زيت مواتير، بينما تخلينا عن فكرة الاستعانة بكلب بعد أن أحضر واحد منا «كلب بلدى» وربطه فى الحاجز لكنه أرهقنا لفترة طويلة، حيث كان مريضا ومنهكا من كثرة الغاز الذى استنشقه فى أثناء المواجهة، وكان بحاجة للتغذية والتدفئة والطبطبة طوال الوقت فأطلقنا سراحه. أما القرار الأهم فقد كان تحويل مدخل العمارة إلى بوفيه يقدم المشروبات الساخنة المجانية طوال الوقت للرفاق باستخدام الكاتل المملوك لحارس العقار وبدعم تموينى من كل شقق العمارة. كانت الأيام العشرة الأولى صعبة، إذ كنا طوال الوقت فى انتظار الأشباح التى على وشك الوصول إلى الكمين الذى نقف فيه، كان يزورنا كل فترة شاب على موتوسيكل طالبا منا أن ننتبه وفى كل مرة كان يقدم سببا مختلفا. انتبهوا «فيه عربية من بتوع التوحيد والنور مسروقة وجواها بضاعة بنص مليون جنيه»، انتبهوا «فيه عربية كيا حمرا بإزاز فاميه فيها اتنين بيضربوا نار على الناس فى اللجان»، انتبهوا «فيه عربيتين إسعاف فيهم مساجين هربانين مرفّعين السواق»، انتبهوا «فيه واحدة منقبة فى عربية جيب سودا بتوزع كحك بعجوة مسمم على الناس فى اللجان»، انتبهوا «أى حد ييجى يقولكم عايزين متبرعين بالدم امسكوه.. طب ليه؟.. بيحقنوا الناس بفيروس وفيه 30 واحد ماتوا فى البساتين»، انتبهوا «فيه 50 واحد هجموا على العيال فى بركة الفيل والدنيا ولعة وفيه ضرب نار»، انتبهوا «أى ضابط شرطة يعدى عليكو امسكوه وسلموه للجيش»، انتبهوا «وصلوا المنيل وجايين على هنا؟ همّ مين؟.. ماحدش عارف همّ مين». كانت أياما صعبة.. هل تريد أن تعرف الحصيلة؟ سيارة بها ضابط شرطة قال لنا إنه من طاقم حراسة فتحى سرور، قلنا له سنسلمك للجيش فرحب بذلك كثيرا، فمن المؤكد أنه كان سيلقى هناك معاملة أفضل من التى يلقاها كل خمسمئة متر فى لجنة. شاب مريب للشك بلا بطاقة عند تفتيشه تم ضبط خواتم ذهبية معه، تم تسليمه للجيش، اعترف للضابط بأنه سرقهما من محل كبير فى المهندسين، بعد أسئلة كثيرة عرف الضابط أنه فرع أحد محلات «داماس» فقال له «ده الدهب.. فين الألماظ بقى؟» فقال له «واللهى ما كان فيه ألماظ.. المحل كان متكسر دخلنا مالقيناش غير شوية الدهب دول وشوية حاجات فضة سيبناهم»، فقال له الضابط «وهو داماس بتاع فضة؟.. ما هو ده الألماظ يا ابن العبيطة». قبل التنحى بيومين تنهد سمير الأشقر الأب الروحى للكمين قائلا لنا حكمة الأيام الماضية «بقالنا أسبوعين واقفين فى البرد ومابنامش علشان هوا». (مقطع من كتاب «كمين القصر العينى».. يصدر قريبا إن شاء الله)