ضمير البرادعي الوطني لم يسمح له بترك إخوته في الوطن يكتوون بنار القهر والاستبداد.. ومجيئه إلي مصر وترسخ زعامته يؤكد أن مصر في طريقها لتراجع دولة الأمن مصريون يزرعون الأرض في الوادي والدلتا ليأخذوا ما يكاد يبقيهم علي قيد الحياة بعد أن يأخذ «الملتزم» أغلب نتاج عملهم ليؤدي بعضا منه للمملوك التابع له وصولا للحاكم سلطانا كان أو غير سلطان. هذا هو مشهد المصريين قبل 500 عام من اعتلاء محمد علي سدة الحكم، لم يكن المصريون موجودين بوصفهم أصحاب هذا البلد بل كانوا أقرب ما يكون لخدم عند أسياد، ولم يكن ينتمي منهم للأسياد إلا فئة قليلة من المتسلحين بالعلم من علماء الدين ومشايخ الأزهر وبعض التجار. وحين يتولي محمد علي فإن تغييرا شكليا يحدث لهذا المشهد، وهو أنه أصبح السيد الوحيد بدلا من السادة الملتزمين والمماليك، لكن جوهر المشهد يبقي علي حاله، فالذين يزرعون كما هم لا يملكون ما يزرعون، ولا صناعة لثروة تخلق طبقة وسطي تستطيع أن تشارك في صنع القرار خاصة أن النشاط الزراعي هو الرافد الأصغر لخلق طبقة وسطي قادرة قياسا بالنشاطين الصناعي والتجاري. وكان المصريون علي موعد جديد لتحول مهم (وإن لم يكن كبيرا) حين أصبح من حقهم تملك الأرض التي يزرعون إذا ما دفعوا ضرائبها لعشر سنوات قادمة فيما سمي قانون المقابلة (الضرائب مقابل التملك) في نهايات عهد الوالي سعيد ابن محمد علي نظرا لحاجة الدولة للمزيد من الأموال، وهي الحاجة التي زادت مع الخديو إسماعيل ليصبح امتلاك فئة ولو قليلة من المصريين للأرض نواة ولو صغيرة لتشكل طبقة وسطي لم تكن متسعة وعريضة لكن الواقع أثبت أنها قادرة (بتحالفها مع المقهورين من المصريين بسياط الاستبداد والاحتلال) علي قيادة ثورة 1919 التي كانت أعظم إنجاز سياسي للمصريين تجاوز بكثير إنجازهم المهم في ثورتي القاهرة لمقاومة الاحتلال الفرنسي قبل ما يزيد علي المائة عام. ولأول مرة أصبح للمصريين دستور يجعلهم أصحاب القرار في بلدهم بدلا من المماليك والولاة والسلاطين، فكان دستور1923 الذي جاء بعد اعتراف إنجلترا بمصر دولة مستقلة رغم تحفظاتها. واستمرت مياه النهر في الجريان، ولتتسع وان كان ببطء شريحة الطبقة الوسطي من المصريين جنباً إلي جنب مع الشريحة الضيقة من أعوان وأغاوات وإقطاعيي الولاة والسلاطين السابقين. لكن اتساع هذه الطبقة الوسطي لم يكن للدرجة التي تجعلها قادرة علي الصمود في مواجهة الرياح العاتية للحرب الباردة بعد 1945 والتي مكنت بقواعد لعبتها مجموعات صغيرة من الضباط المتطرفين وطنياً والذين لم تمكنهم قدراتهم وخبراتهم من رؤية متكاملة وناضجة لإدارة المستقبل فأعادوا شعوب منطقتنا وعلي رأسها الشعب المصري لحظيرة المتفرجين، خاصة بعدما أسهم تعارض المصالح بين قوي الاحتلال وقوي الاستبداد قبل 1945وبين القوي الوطنية الشعبية في تكسير عظام هذه القوي الأخيرة وفي عدم الإيمان بقدرتها علي الإنجاز مما أفسح الطريق واسعا لتجريب نظرية المستبد العادل خاصة إذا كان عسكريا، وكانت تجارب أتاتورك وهتلر وستالين بنجاحاتها المبهرة قد أخذت عقول شعوب المنطقة وقلوبها، وليصبح تحطيم هذه الطبقة الوسطي الهشة التي تكونت بطيئة بطيئة في أقل من المائة عام السابقة هدفا سهلا للحكام العسكريين الذين أعطاهم ارتكانهم لإحدي قوتي الحرب الباردة قدرات غير مسبوقة لأي حكام سابقين، فمانح السلاح والدقيق والقماش أصبح متاحا للحكام الجدد بإشارة واحدة أو بنظرة عين. لكن الحكام الجدد الذين لم يروا الشعب صاحب القرار بوصفه صاحب المصلحة الأول فشلوا في استمرار نظرية الطعام مقابل الحرية وفي تحقيق إنجاز حقيقي لنقلة حقيقية في حياة هذا الشعب، بل إن كثيرا من إنجازاتهم لم تصمد حين تحول التسلط العسكري إلي استبداد مافيوي (مافيا) وهو ما تعيشه مصر الآن. لكن جديدا كان قد حدث ولأول مرة في حياة المصريين بفضل التطور في عالم المواصلات وفي طبيعة النشاط الاقتصادي العالمي، حيث تمكنت شرائح غير قليلة من المصريين من الهجرة شرقا وغربا وأنتجت لنفسها وبكدها ثروات علمية ومادية أعطتها استقلالية كبيرة عن سلطة الحاكم، وكذلك الأمر مع شريحة من المصريين بالداخل التي اضطر نظام الحكم لدعوتها مرة أخري للعمل الخاص بعدما فشل في إشباع حاجاتها، وهو ما أعطي نفس القدرة لهذه الشريحة رغم ما شاب هذه العملية من احتكارات، وليصبح المشهد الآن أن المصريين يمولون وينفقون مباشرة علي أجهزة دولتهم من جيش وشرطة وغيرهما من أموالهم المقتطعة منها ضرائب وجمارك، كل ذلك بجانب ما وفرته تكنولوجيا الاتصال والإعلام من مساحات مكتسبة للمصريين في مواجهة حاكميهم. ما قصدته من هذا الاستعراض الطويل لقدرات المصريين في السبعمائة عام الأخيرة في مواجهة حكامهم هو أن القدرات التي يمتلكها المصريون اليوم لم تكن متاحة أبدا لهم طوال هذه المئات من السنين تعليما وثروة وتواصلا فيما بينهم. ومن هنا فإن علي من يستكثرون علي الشعب المصري حقه المشروع في الوصول لديمقراطية كاملة أن يراجعوا أنفسهم. لكن تبقي المشكلة في أنه لابد من تنظيم هذه القدرات سياسيا وهي الحلقة المفقودة في المشهد السياسي الآن خاصة مع تحول الحياة الحزبية والسياسية في مصر إلي مسرحية هزلية، رغم الإدراك بأن هذا الديكور كان مرحلة طبيعية من مراحل التطور السياسي لكثير من الدول المستبدة. فالذين كانوا يستطيعون دفن معارضيهم أحياء دون أن يحاسبهم أو يضيق عليهم أحد لا يستطيعون الآن إلا أن يدعوا أنهم ديمقراطيون وأنهم خدام الشعب وأن شرعيتهم مستمدة من انتخاب الشعب لهم، ومن هنا فإن من تبجح بتزوير انتخابات مجلس الشعب بدائرة أجا هذا الأسبوع وبعد إلغاء الإشراف القضائي الحقيقي واهم واهم حين يتصور أن هذه هي نهاية القصة، فأهلاً بهذا التبجح وهذا الفُجر في ظل السماوات المفتوحة وليزداد تفاعل هذه الأوضاع مع أوجاع ملايين المصريين فقرا ومرضا وقهرا ودموع أمهات تدمي القلب لتضع نهاية أخري للقصة. ويبقي التفاف المصريين حول زعامة من نوعية غاندي ونهرو ومانديلا وديجول وأردوجان أخيرا هو ما ينقص المشهد السياسي في مصر الآن بعدما فشلت أحزاب المعارضة في خلق مثل هذه الزعامة التي يلتف حولها المصريون تحقيقا لأشواقهم في الحرية والعدالة، فأغلب زعماء الأحزاب في مصر اليوم هم أنفسهم رفاق السيد عمر مكرم الذين باعوا الشعب المصري علي أعتاب عطايا الحاكم، لكن الزمن ليس هو نفسه فهناك رجل مثل مصريين كثيرين استطاع وهو خارج هذا النظام أن يكون قامة كبيرة وأن يحقق مصداقية تطلع كثيرون لأن تصبح قيمة مضافة وخاتمة المطاف في نضال هذا الشعب. وكان الرجل عند حسن الظن به، فضميره الوطني والإنساني لا يسمح له بترك إخوته وأبنائه المصريين يكتوون بنيران القهر والاستبداد وهو قابع في مكانه لا يحرك ساكنا مثله مثل كثيرين. ومن هنا تأتي أهمية زعامة الدكتور البرادعي التي لم تزل في طور التشكل والتي يأتي استقباله في المطار لبنة ثانية في بنائها الذي يتطلع المصريون لتشييده. وهنا أود أن أقول إنه كلما ترسخت زعامة البرادعي فإن ذلك يعني بالضرورة تراجعاً لدولة الأمن التي أثبت الواقع أنها لا تستطيع أن تدير قدرات هذا الشعب لتحقيق نهضة يستحقها باستغلال موارد عظيمة يملكها. سنذهب لاستقبال الدكتور البرادعي قامة عالية وزعامة مستحقة تتمتع بالضمير اليقظ والعقل المتفتح والرؤية الثاقبة التي تؤمن أن تفعيل قدرات الشعب بالحرية والعدل هو الأساس الراسخ للتقدم الدائم والمستمر، وأن الزعيم الحقيقي هو الذي يؤمن بأن الشعب هو الزعيم الذي لا يرحل. سنذهب مدركين أنه ليس سهلا استخدام زعامة البرادعي فزاعة جديدة تضاف للإخوان المسلمين الذين لم يكن لدي النظام القدرة أو الرغبة في دمجهم سياسيا بما يجعلهم إضافة لقوي الاعتدال. سنذهب مدركين أيضا أنه ليس سهلا علي النظام ترويج أن زعامة البرادعي تمثل تهديدا للمبادرة الفردية والاقتصاد الحر وليس المنفلت الذي طبقه جمال مبارك نقلا عن متطرفي المحافظين الجدد. سنذهب مدركين أن هناك أكثر من سيناريو لجعل زعامة البرادعي زعامة منتجة ومتوالية الإنجاز، وأن ذلك سيكون موضع نقاش عميق وعملي في الأيام القادمة. سنذهب مدركين أن المصريين الراغبين في الحرية أكبر بكثير من 34 ألف ضابط شرطة لا يرضي 99% منهم إلا أن يكونوا بحق رجال عدالة لا رجال عصابة، خداما للشعب لا لغيره من أرباع المواهب من الأغاوات والمماليك الجدد. سنذهب مدركين أننا نشق طريقا واسعا نريد لمصر أن تسير فيه بدلا من الحارة السد التي يدفعها إليها الموتورون والموتورات الجدد.