تأملت (أنا الملاك الحارس والراوي لتاريخ مصر)، من موقعي فوق سحابتي المفضلة ما يحدث بأسفل في البلد المنكوب، الظالم أهلها والمظلومين أيضًا.. غمرني ظل ضخم فظننت أنها سحابة أخرى مشبعة ببخار الماء، ولكن الظل المهول غمر الأرض كلها حتى الأفق. عرفته قبل أن أراه، وهو لم يمهلني حتى أرفع نظري وأتحقق منه؛ لأنه ظهر أمامي ملء البصر الذي يعجز أن يدركه كله. كنت قد رأيته من قبل وكل مرة كان يروعني حجمه المهول، وخلقته البشعة، وكيانه الأسود، وأجنحته التي تكفي ريشة واحدة منها لسحق الأرض ومن عليها....... إنه ملك الموت. التزمت الصمت في حضرته، فهو أعلى مني رتبة بمراحل، ولكنه بسط يده على اتساعها من الشمال للجنوب فهلعت، وكدت أن أتكلم، ولكنه أخرسنى بنظرة تجمد لها قلبي وشل لساني، فعاودت الجلوس على سحابتي الصغيرة (نسبيًا).... وواصلت الكتابة.. أصبح «التحرير» مرتعًا (في التصريحات الرسمية فقط) لكل من «حزب الله» و«حماس» و«إيران» و«الموساد» و«أمريكا» و«قطر» ........إلى آخر ذلك من مخترعات وإشاعات إعلام «الموكوس». ووقف كاتب هذه الكلمات لأول مره في حياته في طابور «بنزين» طوله أكثر من ثلاثة كيلومترات ليفاجأ في النهاية أن المسموح له هو فقط خمسة عشر لترًا! نظر «الكاتب» وقتها لعسكري الجيش القائم بالتموين متوسلاً قائلاً: -أرجوك أنا مستحيل أقف الطابور ده تاني، والله أعلم الأزمة دي هاتخلص إمتى فابتسم قائلاً: -"ولا يهمك أنا هحطلك تلاتين لتر" فقال له ممتنًا: -"ربنا يخليك .. الجيش هو حامي ثورتنا فعلاً" فضحك العسكري البسيط العبقري (اعترف لي كاتب هذه السطور بعدها أنه كان غبيًا) وقال له وهو ينظر حوله: -"ماتصدقش كل اللي تسمعه .. كلهم مبارك" ليصيبه بالذهول الذي لم يُفِقْهُ منه إلا قوله: -"56 جنيه يا أستاذ".. وظهرت لأول مرة عبارة «مطالب فئوية» في وجود عشرين مليون مصري في الشارع، وأطلقت «وكالة ناسا» اسم الشهيدة «سالي زهران» على مركبتها المتوجهة نحو المريخ، في الوقت الذي صرح فيه «عمر سليمان» قائلاً: "النظام لم ولن ينهار.. وتوقعنا ثورة شباب ال«فيس بوك» قبل عام" (!) ليثبت عدم أهليته أو جدارته بأي منصب سابق أو لاحق على الثورة. في يوم 10 فبراير (قبل رحيل مبارك بيوم) أصدر المجلس الأعلى للقوات المسلحة «البيان رقم واحد» وجاء فيه: "انطلاقًا من مسؤولية القوات المسلحة، والتزامًا بحماية الشعب ورعاية مصالحه وأمنه، وحرصًا على سلامة الوطن والمواطنين، ومكتسبات شعب مصر العظيم وممتلكاته، وتأكيدًا وتأييدًا لمطالب الشعب المشروعة.. انعقد اليوم الخميس الموافق العاشر من فبراير 2011 المجلس الأعلى للقوات المسلحة، لبحث تطورات الموقف حتى تاريخه". وهو كلام يحمل أكثر من معنى، ويحتمل أكثر من تفسير كما هو واضح (الآن)، في الوقت نفسه الذي قال فيه الصحفي البريطاني «روبرت فيسك» بوضوح: «مبارك» أوشك على مغادرة الحكم نهائيًا، ورحيله سيكشف حقائق «رهيبة». حاصر الثوار «ماسبيرو»، و«مجلس الوزراء»، و«رئاسة الجمهورية»، و«وزارة الداخلية»، وفشلت كل مخططات إجهاض الثورة، ولم يعد هناك بد من خلع رأس النظام؛ للحفاظ على النظام نفسه كما هو (كما عرفت وتيقّنت فيما بعد) وآتى البيان الهزيل على لسان «عمر سليمان»، ليصّدق الثوار الخدعة الجهنمية ورقص «الكاتب» في الشارع، مثل: «الريس حميدو» أثناء تدشينه للباخرة «نورماندي» والتي _ للمفارقة_ غرقت أيضًا بمجرد نزولها للمياه، كما حدث مع ثورتنا .. ومات الفريق «سعد الدين الشاذلي» في نفس اليوم، وشّيعت جنازته بدون قيادات الدولة، وكأن الله أراد أن تكون عدالة السماء كاملة، وأن تكون جنازة الرجل المحترم نظيفة من هذه الأشكال. وارتكب الشباب الثائر أكبر خطأ سينسب له في كتاب التاريخ. نظف الشباب الميدان من القمامة (وهذا هو الجزء السهل)، قبل إنصرافهم إلى منازلهم (للحقيقة والتاريخ كان هذا بضغط من رأي عام واسع كان يرى أنه كفاية كده!)، دون إنتظار تنظيف النظام بأكمله من قمامته (وهو الجزء الذي عرفوا فيما بعد أنه مستحيل الحدوث في بقاء العسكري)، وأزيلت الحواجز، وفتحت الشوارع وتم تفريغ الميدان من الثوار (إلا بعض المعتصمين) تمهيدًا لتفريغ ثورته من مضمونها. فى منتصف «فبراير» تم تعطيل العمل بالدستور (وإحيائه فيما بعد!) وحُل مجلسا الشعب والشورى، وتم تشكيل لجنة لعمل تعديلات الدستور تضم «صبحى صالح» بجانب «طارق البشري» (المحسوبين على الإخوان) ليفهم العقلاء أن هناك صفقة ما، ولكن يخرسهم أو يشوش عليهم «رأي عام» يؤيد الجيش بشكل كاسح، وظهر -لأول مرة- مصطلح «عجلة الإنتاج» فى بيان من القوات المسلحة تحذر فيه من الاحتجاجات والوقفات العمالية (!) فى الوقت الذي دارت فيه عجلة البناء العشوائي على الأراضى الزراعية بشكل مرعب، بدون أى تصد بشكل جاد من الجيش أو الشرطة، والتى لم يعد لها وجود فى حياة المصريين إلا فى بيان مستفز كان مقدمة لما حدث بعدها من تجاهل محاسبة أى من ظباطها يقول: "أن «شهداء» الشرطة فى الثورة بلغوا 32 شهيدًا و1079 مصاباً" (!). وظهر البلطجية فى كل شارع وحى وطريق وبدأ الإستيلاء على العقارات الخالية وأراضى الدولة والمواطنين، بدون أى نية من السلطات لمعالجة هذا الوباء، لتصل للشعب الرسالة التى يقول لسان حالها "أدى اللى خدتوه من الثورة". وأعرب «المخلوع» عن نيته فى تسجيل مذكراته (والله العظيم)، وتقدم شباب الثورة بمطالبهم لقادة القوات المسلحة التى أتت بهم ثورتهم وهى للذكرى (التى هى ناقوس يدق فى عالم الطناش): -إلغاء الدستور القديم (تم الاستفتاء على الإبقاء عليه ثم مخالفته!) -إلغاء حالة الطوارئ (تم عمل العكس وتفعيلها) -إلغاء المحاكم الاستثنائية (لم يحاكم الثوار إلا بغيرها منذ الثورة) -إعادة تشكيل حكومة تكنوقراط إنتقالية تترأسها شخصية «وطنية» مدنية (وكانت النتيجة شفيق، ثم شرف، ثم الجنزوري!) -تخفيض سن الترشح للبرلمان إلى 25 سنة (ولم ينجح أحد فى هذا السن) -تخفيض سن الترشح للرئاسة إلى 35 سنة (كل مرشحي الرئاسة في نادي الخمسينيات فما فوق) -إطلاق حق تكوين الجمعيات والنقابات وإصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام الأخرى (تم إقتحامها فيما بعد وإغلاق بعضها والقبض على أعضائها وإتهامهم بالعمالة والتمويل الخارجى وتنفيذ أجندات أجنبية) -إجراء انتخابات النقابات المهنية والعمالية والاتحادات الطلابية وفقا لقانون كل منها (ولم يتم تسليم معظمها إلى من أتت بهم الانتخابات) -الإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين قبل وبعد 25 يناير (وصلوا إلى خمسة عشر ألفًا بعد الثورة فقط!) -حل الحزب الوطنى الحاكم، وتسليم جميع أمواله ومقاره للدولة (وتم إنشاء سبعة أحزاب وطنى بديلة) -إلغاء جهاز مباحث أمن الدولة (تم استبدالة بالأمن الوطنى) -إلغاء توجيه المجندين لقطاع الأمن المركزى (أصبح الجيش يضربنا جنباً إلى جنب مع مجندى الأمن المركزى!) -تنفيذ الأحكام القضائية النهائية التى صدرت فى الفترة السابقة مثل: طرد الحرس الجامعى (لم يحدث حتى الآن) وقف تصدير الغاز (يتم مواصلة تصديرة بحماس غير عادى، لدرجة إعادة الإصلاح كل مرة للخط الذي تم تفجيرة لعشرة مرات متتالية!!!) -إلغاء القانون 100 المنظم لانتخابات النقابات العمالية (حدث بدون إيجاد بديل فعّال) -إلغاء قانون الأحزاب ووضع قانون جديد لمباشرة الحقوق السياسية (لم يحدث) -حل جميع المجالس المحلية (ولم يتم عمل إنتخابات تجديدها حتى الآن) ونكمل المقال القادم لو كان في العمر بقية..