الإعلام المركوب هو الظاهرة الأوضح منذ ثورة يناير، حيث انتقل التليفزيون الحكومى وصحفنا الحكومية من محبظتية لمبارك إلى محبظتية للمجلس العسكرى، وهو مستعد فورا لأن ينافق ويعمل خداما لسيده الجديد القادم، سواء أكان الإخوان المسلمين أم السلفيين، ستجد إعلاما مركوبا ومخلصا ومتحمسا جدا فى انحنائه، ويبدو أن المجلس العسكرى لا يجد أى مشكلة فى هذا الوضع (..)، ويفضل أن يكون التليفزيون فرعا لجهاز الشؤون المعنوية، فهو الحاكم الحقيقى للتليفزيون المصرى حاليا، ومن ثم يتجاهل أى مشروعات لاستقلال الإعلام المملوك للدولة، بحيث يصبح إعلاما مملوكا بالفعل للشعب والبلد، لا لمجلس أو حزب أو جماعة حاكمة وصاحبة سلطة ونفوذ، الآن وبعد أن ظهر الكل على حقيقته، وقبل أن يحْلَى فى عين الإخوان استمرار الإعلام الحكومى حكوميا ومركوبا، حيث سيكونون هم الحكومة والراكبين، علينا أن نعود إلى الباحث الإعلامى ياسر عبد العزيز الذى قرر أن يخدم وطنه بأن يحرر إعلامه، فقدم مشروعه لهيكلة الإعلام المملوك للدولة، معتمدا على الخبرات الدولية فى هذا المجال، ومنها كما يقول «الخبرات المتعلقة بعمليات إعادة هيكلة وسائل الإعلام فى دول أوروبا الشرقية، بعد اندحار الشيوعية فى عام 1989، خصوصا فى التشيك ويوغسلافيا السابقة وبولندا، إضافة إلى تجربة ألمانيا الموحدة فى إعادة هيكلة وسائل الإعلام المملوكة للحكومة الشيوعية فى ألمانيا الديمقراطية السابقة، وأخيرا محاولة العراق بعد الغزو الأمريكى تحويل قناة تليفزيون (العراقية) المملوكة للدولة إلى قناة تعمل بنمط الخدمة العامة». ويمضى ياسر عبد العزيز مستخلصا من هذه التجارب ما يستحق أن نتعلم منه: - معظم تلك البلدان لم يفكك منظومات الإعلام التابعة للدولة، أو يطرحها للخصخصة، أو يقوم بممارسات ضارة بحقوق العاملين فيها. (وهذه نقطة مهمة للغاية يطرحها ياسر عبد العزيز كأول قاعدة، وهى تستاهل فعلا، فرغم اعتقادى أن الإعلام الخاص، والمستقل، والحر، والمنحاز إلى أفكار وعقائد، والمحايد فى المعلومات والأخبار ضرورة حتمية بل هو الأصل فى الصحافة، لكن يجب أن لا يستسهل أو يستهبل أحد، ويقول نبيع «الأهرام» و«الأخبار» أو نخصخص القناة «الأولى» أو القناة «الثانية» وهذه الاقتراحات المختلة، فخصخصة الإعلام المملوك للدولة فضلا عن أنها ستفتح بابا للفساد المالى المريع، فإنها كذلك تسلم الإعلام إلى مليارديرات أو مستثمرين يعملون فى مصر -كما نرى من بعضهم- وفق مصالحهم الشخصية والمالية، ويديرون الإعلام -كما نرى من معظمهم- طبقا لأهوائهم، ولن يصبح ساعتها إعلاما للناس، بل سيصير إعتاما للناس التى من حقها أن تحصل على معلومات بعيدة عن الهوى والمصلحة وعن الإعلانات كذلك). - نعود إلى القاعدة الثانية التى يطرحها باحثنا المرموق ياسر عبد العزيز، مستفيدا من تجارب الدول الأخرى، وهى أن أغلب هذه البلدان سعى إلى تحويل نمط ملكية تلك الوسائل من الحكومة إلى الدولة، وبالتالى سعى إلى تحويل نمط عملها من الأداء الرسمى الحكومى إلى نمط الخدمة العامة القائم على خدمة أهداف الدولة والمجموع العام بشكل متوازن. ويذكرنا هنا الباحث ببعض تلك الدول، مثل التشيك، وبولندا التى عانت من التأثير السياسى للحكومات صاحبة الأغلبية فى البرلمانات على إدارة وسائل الإعلام العامة، بالنظر إلى أنها فوضت البرلمان فى تعيين المديرين، فجاءت بعض التعيينات سياسية، ولم يرض عنها العاملون. (الدولة إذن يا أعزائى المشاهدين والمستمعين والقارئين هى الكل، وهى المجموع وهى حاصل كل الاختلافات والطبقات والشرائح والثقافات، لكن الحكومة هى تعبير عن حزب واحد حاكم أو جماعة حاصلة على الأغلبية، لكنها ليست الأمة بأسرها، يبقى ما نفهمه من تجارب الآخرين أن الإعلام بتاع الدولة يعنى بتاعنا كلنا، وليس إعلام الحكومة يعنى بتاع الجنزورى النهارده والإخوان بكرة، وأى حد ثالث بعد بكرة، ده لو طلع علينا بكرة أصلا!). - القاعدة الثالثة، كما جاءت فى مشروع ياسر عبد العزيز، هى أن معظم تلك البلدان يتبنى أنظمة مزدوجة لتملك وسائل الإعلام، ويؤّمن استقلالية وسائل الإعلام العامة عبر تمويل أعمالها من عوائد الرخص، ويتخذ إجراءات لمحاربة الاحتكار، ويفرض قيودا متفاوتة على الإعلان فى الوسائل المملوكة للدولة. ومعظم تلك الدول حول وسائل الإعلام العامة إلى مؤسسات عامة، ووضع قواعد لاختيار مجالس إداراتها، من خلال عمليات اختيار متوازنة تخضع للمراقبة والتقييم. رغم أن بعض تلك المؤسسات ما زال يعانى من تراجع العائدات فى مقابل النفقات، ولا يستطيع منافسة الوسائل الخاصة بسبب قلة الموارد. طيب هذا الكلام الذى يبدو جميلا وطيبا ومتوضئا بماء زمزم كيف ننفذه؟ أولا لازم نوافق عليه، وهذا ما لم يتم حتى الآن، بل لم يتم أصلا مناقشته، بل أساسا وفى الأصل لا أحد يعرف أن هذا الكلام موجود ومطروح، بل المشكلة الحقيقية أنه قد يأتى لك مجلس شعب، يرفض هذه الفكرة من أساسها، حيث يفضَل الإعلام المركوب من الحكومة عن الإعلام المملوك للدولة، لكن يبقى أن معظم تلك الدول التى تحولت بإعلامها من الاستبداد والنفاق والتدليس وخدمة بيوت السلطة والسلطان إلى إعلام للشعب، قد أسس مجالس إعلامية أو هيئات للإشراف على الإعلام، تضطلع بدور كبير فى إدارة تلك الوسائل والإشراف عليها ومراقبة أدائها وحمايتها. ما هذا المجلس تحديدا، وكيف يمكن أن يكون بعد كل ما كان؟ نكمل غدا.. بإذن الله.