بما أنني واحدٌ من أبناء دائرة سيدي جابر الإسكندرانية، فقد عشت ردحًا من الزمن تحت سلطان بني (طلعت مصطفى) الذين تناوبوا على تمثيل دائرتي في مجلسي الشعب والشوري إبان العهد (شبه) البائد، حتى فاجأني الوعي المتصاعد لدى الشعب المصري بعد يناير، وكسره لهذا (الاحتكار) الأُسري بأن هذا العهد قد انقضى، وأن تلك الأيام قد ولَّت، فلن يُكتب لي أن أعيش مدةً مديدةً أخرى من عمر الزمن تحت ظل الأسرة الكريمة. لكن ما جرى في دائرة سيدي جابر والرمل في الأيام الفائتة يستحق الوقوف عنده، لأنه يصلح أن يكون نموذجًا للحالة العبثية التي تسود يومَ الناس هذا، وانتخاباتهم هذه. وخلاصة الكلام أن المنافسة على مقعد الفئات الفردي في تلك الدائرة قد انحصرت بين ثلاثة نفر لا رابع لهم: المهندس طارق (طلعت مصطفى)، المستقل، والمستشار محمود رضا الخضيري، مرشح حزب الحرية والعدالة، ومرشح حزب النور، ثم خرج مرشح حزب النور من المنافسة بعد الجولة الأولى، وبقيت جولة الإعادة بين المرشحين الأوّلين. وكنت، ككثيرٍ من أبناء دائرتي، بل ككثيرٍ من المصريين: لست مؤيدًا لحزب الحرية والعدالة ولا منتسبًا إليه، ولا للجماعة التي تقف وراء الحزب، لكننا رأينا في المستشار الخضيري بديلاً معقولاً لآل طلعت مصطفى، يمكنه على أقل الأحوال إنهاء هذا الاحتكار المزمن لتمثيل الدائرة. لكن كثيرًا من أبناء الدائرة كان له رأي آخر، أدى في نهاية الأمر إلى اجتياز مرشح الوطني (سابقًا) الجولة الأولى، واحتكامه إلى الإعادة على المقعد البرلماني. وهذا الرأي بالطبع له ما يعلله ويسوغه: فالرجل كما يذكرون وافر الأدب دمث الأخلاق متدين على المستوى الشخصي، وهي أمور تأكدت منها بالفعل، وإن كان مفهومي عن الدين والتدين قد يختلف بطبيعة الحال عن مفهومه، أو مفهوم من وصفوه بذلك. ثم إن الرجل غزير الإحسان، كثير الصدقات، سريع الخدمات، دائم المساعدة لفقراء الدائرة ومعوزيها، حيث تحصل آلاف الأسر على مبلغ (خمسين جنيهًا) كاملةً لكلٍّ منها شهريًّا، بغض النظر عن كون مندوبيه يطلبون بطاقات المساكين الشخصية قبيل الانتخابات لسببٍ غير معلوم. كما أنه قد أقرض بعض شباب الدائرة منذ فترةٍ وجيزة قروضًا (حسنة) بلغني أنها وصلت نحو خمسين ألف جنيه للفرد الواحد، وحين بلغني ذلك سعيت لأن يكون لي نصيب من هذه القروض الحسنة ليحمل عني بعض أعباء الحياة، فطُلبت مني دراسة جدوى، فعلمت أن لا جدوى من هذا السعي، ربما لأن مظهري ومهنتي وسمعتي لا تدل بحال من الأحوال على أنني قد أكون ذا جدوى وقت الانتخابات. ولأنه يبدو أننا أخطأنا فهم الحديث الشريف: (اليد العليا خير من اليد السفلى)، فاعتقدنا أنه يعني أفضلية صاحب اليد العليا وأحقيته مطلقًا، مع أن الحديث الشريف هو دعوة إلى العمل والتكسب في حقيقة الأمر؛ فقد كان لصدقات الرجل وإحسانه إلى فقراء الدائرة أثر بالغ في كسب أصوات ناخبين كثر لا من بين الفقراء فحسب، بل أيضًا من أبناء الطبقة العليا والوسطى-العليا، لأنهم لا يرون أن هذا يعد نوعًا من الرشى الانتخابية المذمومة، المجرمة قانونًا، بل عملاً من أعمال الخير يستفيد منه أبناء الطبقة الكادحة والمعدمة، ولو لم يصل فاعل الخير إلى البرلمان لربما انقطعت تلك الصدقة عنهم، وفقدوا عائلهم. ونحن بهذا المفهوم نقدم رؤيةً معاصرةً لحكاية (روبن هود) الشهيرة، الذي كان فيما مضى يسلب أموال الأغنياء ليعطي الفقراء، بينما هو في الحالة المصرية يتملك أراضي الناس ويستثمرها ليعطي فقراءهم بعد ذلك شيئًا يسيرًا من أرباحها، وهو تصور للبطل الشعبي يبدو مشوهًا ومؤلمًا بقدر ما هو جديد. وأما الإخوان فقد عوَّلوا كثيرًا في مواجهة شعبية المهندس طارق طلعت الكثيفة على وصفه بأنه من (الفلول)، وهو ما لم يحالفهم فيه الصواب، لأنهم لم يدركوا أن هذه الكلمة قد تحولت بمرور الوقت من صفة ذمٍّ إلى ما يشبه المدح، وأنها لم تعد مخيفةً ولا منفّرةً كما كانت في الأشهر القليلة التي تلت (الثورة) في نظري ونظر البعض، أو (الحركة المباركة) في نظر آخرين، وهو الأمر الذي ساهم فيه الإخوان وجميع القوى السياسية بدرجةٍ أو بأخرى، بعدما استعاضوا بالبرلمان عن الميدان، وأقنعوا بأدائهم وأفعالهم وتصريحاتهم قسمًا كبيرًا من الشعب بأن القادم واللاحق قد لا يكون بالضرورة أفضل من الماضي والسابق، فلأن يكون المرء في هذا البلد (فلوليًّا) خيرٌ من أن يكون (ثوريًّا) تلاحقه المحنُ وتحاصره الاتهامات من كل جانب، وأهونها شأنًا الاتهام بالرعونة والطيش، وخفة العقل، وغياب (الرؤية). ولأن تهمة الفلولية قد صارت هيّنةً لينةً لم تُحدث مفعولها المنشود، فلم تصرف عشرات الآلاف من الناخبين عن التصويت له، يتساوى في ذلك كثيرٌ من الليبراليين واليساريين بمعظم الأقباط بكثيرٍ من السلفيين؛ حيث أظهرت بعض الفيديوهات المنتشرة نفرًا من السلفيين يدعون الناخبين إلى التصويت له، وهو ما يحتاج إلى وقفةٍ أخرى للتوضيح والتصحيح، والتأمل أيضًا. فقد أشيع عقيب الجولة الأولى أن ثمة صفقة قد تمت بين حزب النور والمهندس طارق طلعت على حساب المستشار الخضيري ومرشح النور نفسه، وهو الأمر الذي سعيت للتحقق من صحته، وبعد جهدٍ جهيدٍ واستقصاء للأخبار يمكنني القطع بأن هذه الصفقة لم تحدث قط، ولا نصيب لها من الصحة، لا لأن مثل هذه الصفقة محرمٌ مجرمٌ في عالم (السياسة) غير النظيف، لكن لمجرد أنها لم تحدث. لكن حقيقة ما حدث أسوأ من ذلك من وجهة نظري على الأقل، وهي تكشف عن عبثية المشهد الانتخابي الحالي وإغراقه في الخيال. فقبيل جولة الإعادة، سرت شائعة في أوساط السلفيين سريان النار في الهشيم، مفادها أن المستشار الخضيري (شيعي)، نعم، شيعيٌّ من التشيع. ولا أدري إن كانت لتلك الشائعة علاقة بحلول ذكرى عاشوراء في نفس يوم الإعادة، لكن ما كنت واثقًا منه، حين أبلغني أحدهم بهذا الاكتشاف المذهل، هو أن (شيعية) الخضيري لا تختلف كثيرًا عن بهائية عمرو حمزاوي، أو ماسونية البرادعي، أو سلفية طارق طلعت مصطفى. لذلك لم ألق لها بالاً، حتى فاجأني أحدهم بسرٍّ خطيرٍ آخر، وشائعةٍ أخرى تسري وتقضي بأن الخضيري مؤيدٌ لوثيقة (السلمي). وحينها علمت أن الأمر لن يمر مرور الكرام، وأن هاتين التهمتين كفيلتان بتوجيه أصوات قسمٍ كبيرٍ من السلفيين إلى منافسه، بغض النظر عن أي شيءٍ آخر، حيث يقع المستشار الخضيري بهذا من وجهين ضمن الثلاثة الذين ينبغي تجنب ذكرهم مطلقًا أمام بعض المنتسبين إلى السلفية: الشيعي، والسلمي، ونجيب محفوظ. وهناك سببٌ آخر لا بد من ذكره إنصافًا للمهندس طارق، وهو أن شركاته كانت تفتح أبوابها للسلفيين والملتحين للعمل فيها حينما كان كثيرٌ من الأبواب موصدًا أمامهم إبان حكم مبارك وسطوة أمن الدولة، ما أكسبه التعاطف والولاء من جانبهم، وهي نقطةُ تُحسب له من دون شك. إذن، فخلاصة الأمر أن المشهد الانتخابي في بلادنا يقوم على الاختيار بناءً على قاعدة تغليب: (أهون الشرَّين، وأخف الضررين)، على اختلاف وجهة نظر كلٍّ منا في تعريف الضرر والشر، ولعل هذا شيء عادي في التركيبة الذاتية للديمقراطية التي يزعم بعضهم كمالها وقدسيتها، لكن القضية أنه في غضون ذلك لم يرَ معظم الناخبين برنامجًا معلنًا لأحدٍ من المرشحين، ولا كان عند أحدهم أدنى فكرةٍ بشأن ما ينوي -أو كان ينوي- هذا المرشح أو ذاك فعلَه خدمةً لدائرته وأبنائها، أو للبلاد كلها في حال فوزه، حيث كنا مشتتين طوال الوقت بين الخمسين جنيهًا والخمسين ألفًا، مستغرقين في الاتهامات المتراوحة ما بين الفلولية والشيعية وتأييد وثيقة السلمي. وربما كان لدى بعضهم بالفعل برنامج مكتوب معلن، لكن ربما فاتنا السؤال عنه والحصول عليه، كما أنه توجد لدينا انتخاباتٌ في مصر، لكننا لم نحصل عليها، بل على مجرد حالة استقطابٍ ديني وأيديولوجي حادة.