على صعيد عرفات، وفي مخيمات منى، وفي المسعى بين الصفا والمروة، وفي أشواط الطواف حول البيت الحرام؛ تتعدد اللغات وتتنوع الألسنة من العربية إلى الأردية إلى البنجالية إلى الإنجليزية إلى الهندية والصينية والفارسية والكردية، وعشرات بل مئات اللغات تتحدث بها ألسنة الحجاج الطائفين والساعين والداعين والمبتهلين، وإذ تعلو همهمات المتحدثين بكل لغات الأرض؛ يشق أصواتهم فجأة صوت مؤذن الحرم يعلو بالأذان كأنه من علياء الجنان، يخترق الأسماع والقلوب والنفوس والمشاعر، فيصمت المهمهمون، ويخشع الجالسون والقائمون والراكعون والساجدون، وتبقى لغة واحدة هي التي ترتفع كلماتها إلى عنان السماء؛ كلمات الأذان تهليلا وتكبيرا ودعوة إلى الصلاة والفلاح.. المهم في هذا الموقف الذي تكرر معي عشرات المرات خلال رحلة الحج هذا العام؛ هو ما خطر ببالي من قول الله تبارك وتعالى فى كتابه الكريم: (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ) صدق الله العظيم - الروم 22 . تتحدث هذه الآية الكريمة عن بعضٍ من آيات الله فى الكون وفى خلق الإنسان ، فمن آياته أنه بقدرته جلّ وعلا خلق السموات والأرض من غير شئ، أى لم يكن قبل خلقهن مادة ليُخلَقن منها، فهو تبارك وتعالى خلقهن أى أوجدهن من العدم، كل ما فى السموات من نجوم وشموس وأجرام ومجرات وكواكب وأقمار، خلقها الله تبارك وتعالى من العدم، والأرض وكل ما فيها وما عليها، خلقها الله من العدم . ثم يأتى إلى الآية الثانية من آيات الله فى الخلق؛ اختلاف ألسنة الناس، أى اختلاف لغات حديثهم، وهذه الآية جديرة بالتمعن والتدبر ، فاللغة عند الإنسان هى الأداة الرئيسية للتواصل والتقدم ، ولا معنى لاستخلافه فى الأرض دون تزويده بهذه الملكة الأساسية، والأداة الخطيرة التى تمكنه من استخدام عقله وقدراته لصعود سلم الحضارة ، رويدا رويدا عبر آلاف وملايين السنين ، فكيف نشأت اللغة عند الإنسان ؟ هناك عدة نظريات لنشوء اللغة لدى الإنسان ، أولها أن الإنسان فى بداياته بدأ فى تقليد أصوات الكائنات من حوله ، ومحاكاة أصوات الطبيعة ، وشيئا فشيئا تخلقت الألفاظ على لسانه ، وبعد كثير من الوقت تعارف أبناء العشيرة الواحدة على مدلولات الألفاظ و التعبيرات التى يتبادلونها بينهم ، ونشأت اللغة ، وثانى النظريات ترجع نشوء اللغة إلى الصدفة ، وهى نظرية غير مقبولة ، إذ إن متبنّى هذه النظرية يؤمنون بالصدفة فى خلق كل شئ ، والكون كله - عندهم - بنى على الصدفة ، وثالث هذه النظريات ؛ وأكثرها قبولا - فى نظرنا - تلك التى تقول بإلهية مصدر اللغة ، أى إن الله تبارك وتعالى هو الذى أنشأها مع خلق الإنسان ، ( خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ) – الرحمن 3 و4 ، ومع تطور حياة الإنسان على الأرض ؛ تطورت مفرداتها ، واتسعت دلالاتها ، حتى تحدّث باللغة الواحدة مجموعة واحدة ، أو عدة مجموعات من الناس ، وهكذا انتشر التعامل اللغوى بين المجموعات المتناثرة على سطح الأرض المعمورة . إذن .. فالقرآن يقرر إلهية نشوء اللغة لدى الإنسان ، ويَعتبر اختلاف لغات بنى الإنسان آية من آيات الله فى خلقه ، ذكرها القرآن لكى نتفكر فيها ونتدبر. أما عن تناول العهد القديم ؛ كتاب اليهود والنصارى المتداول ؛ لمسألة اللغة فقد كان بطريقة أخرى ، ورد فى سفر التكوين فى إصاحه الحادى عشر: ( وكانَ لأهلِ الأرضِ كُلِّها لُغَةٌ واحدةٌ وكلامٌ واحدٌ. 2فلمَّا رحَلوا مِنَ المَشرقِ وَجدوا بُقعَةً في سَهلِ شِنْعارَ، فأقاموا هُناكَ. 3وقالَ بعضُهُم لِبعضٍ: «تعالَوا نصنَع لِبْنًا ونَشْوِيهِ شيُا»، فكانَ لهُمُ اللِّبْنُ بَدَلَ الحِجارَةِ والتُرابُ الأحمرُ بَدَلَ الطِّينِ. 4وقالوا: «تعالَوا نَبْنِ لنا مدينَةً وبُرجا رأسُهُ في السَّماءِ. وَنُقِمْ لنا اَسمًا فلا نتَشتَّتُ على وجهِ الأرضِ كُلِّها»5ونَزَلَ الرّبُّ لِيَنظُرَ المدينَةَ والبُرج اللذَينِ كانَ بَنو آدمَ يَبنونَهما، 6فقالَ الرّبُّ: «ها هُم شعبٌ واحدٌ، ولهُم جميعًا لُغَةٌ واحدةٌ! ما هذا الذي عَمِلوه إلاَ بِدايةً، ولن يصعُبَ علَيهم شيءٌ مِما يَنوونَ أنْ يعمَلوه! 7فلنَنزِلْ ونُبَلبِلْ هُناكَ لُغَتَهُم، حتى لا يفهَمَ بعضُهُم لُغَةَ بعضٍ». 8فشَتَّتَهُمُ الرّبُّ مِنْ هُناكَ على وجهِ الأرضِ كُلِّها، فكَفُّوا عَن بِناءِ المدينةِ. 9ولِهذا سُمِّيَت بابِلَ، لأنَّ الرّبَ هُناكَ بَلبَلَ لُغَةَ النَّاسِ جميعًا، ومِنْ هُناكَ شَتَّتَهُمُ الرّبُّ على وجهِ الأرضِ كُلِّها ) . فى هذه الفقرة من العهد القديم ، يؤرخ سفر التكوين لتنوع لغات بنى آدم بحادثة غريبة، قام بها بنو آدم مجتمعين، إذ قرروا أن يبنوا مدينة وبرجاً عالياً ، ويتخذوا لأنفسهم إسماً لئلا يتشتتوا فى بقاع الأرض، وسيبنوا المدينة والبرج بالطوب اللبن بدلا من التراب والحجارة ، ويبدو أن الرب غضب حينما رأى بعينيه مشروع البناء ، واطلع على نوايا بنى آدم ، فنزل إليهم وهناك نوّع لغاتهم كى لا يفهم بعضهم بعضاً، وشتتهم على ظهر الأرض ، فتوقف مشروع البناء نتيجة لهذا العقاب ، وسميت المدينة التى لم يتم بناؤها بابل ، لأن الرب فيها بلبل ألسنة بنى آدم ، هنا لنا بضع نلاحظات : أولا: ما هو الجرم الفظيع الذى ارتكبه بنو آدم ، واستدعى غضب الرب عليهم ، ومن ثم عقابهم ؟ ألأنهم فكروا فى بناء مدينة أو برج ؟ ثانيا: المدينة غير المكتمل بناؤها سميت بابل لأن الرب بلبل ألسنة الناس فيها ، فما العلاقة بين اللفظين ، اللهم إلا أنهما تشتركان فى بعض حروفهما ؟ وما العلاقة بين اللفظين فى لغة العهد القديم الأصلية ؛ الآرامية ؟ ثالثا: هل يبلغ الحقد التاريخى على ناس بأرض هذا المبلغ ؟ فاليهود يكرهون أهل العراق ( بابل ) ، نظراً لماضيهم الأسود مع اليهود إبان عصر الأسر البابلى الذى قضى على وجود اليهود على عهد نبوخذ نصّر ، الملك البابلى . رابعاً: وهو الأهم .. اعتبر العهد القديم اختلاف لغات الناس نوعاً من عقاب الرب الذى غضب مما قرر بنو آدم عمله ، وهو ما يهبط بمستوى فهم معجزة تنوع لغات الناس. إن تنوع اللغات على مستوى العالم هو معجزة إلهية بكل المقاييس ، وآية من آيات الله فى خلقه ، ويكفى أن نعرف أن اللغات المنطوقة فى العالم حاليا يتجاوز عددها الألفى لغة ، تختلف فى قواعدها وحروفها وطريقة نطقها وكتابتها والمتحدثين بها قلّوا أو كثروا . أما عن اختلاف ألوان الناس ؛ أى ألوان أجسامهم ؛ فهو آية من آيات الله فى الخلق ، فلون جلد الإنسان يتوقف على إفراز الصبغة Melanin من الخلايا الجلدية Melanocytes ، التى بدورها تستجيب للهورمون المحفز لها من الغدة النخامية ، ولون الجلد أيضا يتحدد تبعا لسمك الطبقة الخارجية من الجلد ، ووجود الأوعية الدموية فى طبقات الجلد المختلفة ، وقد أرجع علماء الأنثروبولوجى ( علم الأجناس البشرية ) تلون بشرات أجناس البشر المختلفة بدرجات متفاوتة ، إلى عوامل قد تكون بيئية ، فالرجل الأفريقى الأسود تلونت بشرته إلى اللون البنى أو الأسود نتيجة التعرض المتطاول لأشعة الشمس الحارقة ، بينما كانت بشرة الرجل الأوروبى بيضاء مائلة إلى الحمرة لقلة تعرضه لأشعة الشمس ، وهكذا تتدرج ألوان بشرات بنى الإنسان تبعا لبيئات نشأتهم وتطورهم منذ بدايات وجودهم فيها ، وهذا بالطبع لا يعنى أن رجلا أفريقيا إن عاش فى بلد كالسويد مثلا ؛ أن يتحول لون جلده إلى الأبيض بتأثير عوامل البيئة، وإنما جعل الله تبارك وتعالى لون الجلد محدَداً بجينات متوارثة ، تنتقل من أب إلى إبن ، ومن جيل إلى جيل ، تحققاً واقعياً لآية من آيات الله فى خلقه ، لأن هذا هو أسلوب القرآن ومنهج الإسلام ، دين الله الخاتم: ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) – فصلت 55 ، واسلمي يا مصر..