في «هوجة» تعديل الدستور الله لا يرجعها وبينما كانت «مصر» تدفع المادة التي تؤبد الرئاسة وتورثها، كانت «الكنيسة الأرثوذكسية» مشغولة بتعديل مادة أخري، هي المادة الثانية من الدستور، التي تنص علي أن «الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع». حيث طالب الناطق الرسمي باسم الكنيسة «الأنبا مرقص»، وحسب نص تصريحه الرسمي هو الآخر: «بحذف الألف واللام من كلمتي المصدر الرئيسي ليصبح التعديل المأمول أن: الشريعة الإسلامية هي مصدر رئيسي للتشريع»؛ وذلك «لضمان وجود مصادر أخري». كما جاء في التصريح نفسه، الذي أراه معبرًا عن وجهة النظر الرسمية للكنيسة، مع كامل التقدير لكل التصريحات ذات المضمون المخالف، والتي صدر بعضها عن «الأنبا شنودة» شخصيا، ذلك أن تصريح «الأنبا مرقص» يعبر عن مجمل مواقف المؤسسة الأرثوذكسية، فضلاً عن أن صفته الرسمية تجعله يرجح غيره مما قيل في سياق «خطب» و«أحاديث إعلامية». من هنا يتضاعف خطر ما ينطوي عليه ما صدر عن «المتحدث الرسمي»، فهو ليس مجرد تصريح، ولا مطلب، ولا تعبير عن «حساسية» أرضعتها حملات منتظمة من «بث الكراهية»، لكنه «خنجر ذو نصلين» يعبر مضمونًا وتبريرًا عن طائفية لا شك فيها، ويفتح الباب واسعًا أمام النظام لممارسة المزيد من القمع، إذ يجرد الشعب من «معيار منضبط» للمحاسبة، متيحًا للديكتاتورية أن تعبث بمصيره، عبر ثغرة تماثل الثغرات القانونية التي تسمح ب«الغش التجاري»! الناطق باسم الكنيسة يريد ألا تقتصر المرجعية علي «الشريعة الإسلامية»، لأنه وحسب نص تصريحه يريد «ضمان وجود مصادر أخري»، غير مبال بأن هذه «المصادر الأخري» غير المحددة تطلق يد النظام لإصدار ما شاء من قوانين لا مرجعية لها، ولا سبيل للطعن في دستوريتها، مادام النظام قادرًا علي إثبات أن لها مرجعية تنتمي إلي «مصادر أخري» حتي وإن كانت هذه المصادر هي أعراف قبائل «الزولو»، أو شعب «الأنكا»، أو «سكان أستراليا الأصليين»، لنصبح بصدد «خليط قانوني» يفتقد الحد الأدني من مقومات «المنظومة»، ويشبه كثيرًا ما «نبلعه» من «خليط» الأغذية غير المطابقة للمواصفات، والتي أصبحت موجودة فقط بفضل ثغرة قانونية متعمدة، بموجبها لا يكون المنتج ملزمًا بتحديد مكونات منتجه علي نحو واضح، بل يكفي أن يكتب مثلا أنه «خليط» من أنواع الشاي، أو من الزيوت، أو «توليفة» من الأدخنة. هكذا يكتب، وهكذا نأكل ونشرب، دون أن نعرف ما الذي نأكل ولا ما الذي نشرب. وهكذا تصبح منظومتنا القانونية، مع التعديل الذي تريده الكنيسة للدستور: «توليفة من أفخر أنواع القوانين العالمية»! وهو خطر فادح ينطوي عليه مطلب لا سبب له إلا الطائفية في أسوأ صورها مماحكة وتعصبًا، وعدا ذلك لا يمكن إرجاعه إلي أي من عوامل التاريخ، ولا القانون، ولا الواقع، ودعونا نفصل هذه العناوين الثلاثة علي الترتيب: 1 التاريخ: أفهم أن يطالب البعض بحق أو بغير حق بتغيير مادة «الشريعة الإسلامية» لو كانت مقحمة علي السياق الدستوري المصري، أو لو كانت هذه الشريعة علي الأصل لا تعترف إلا بمن يؤمن بعقيدتها، أما والفرضان غير قائمين، فإن مثل هذا المطلب يصبح محض تكلف بارد. والحقيقة أن الفرضين غير قائمين، وأنه مطلب لا أبرد منه: ففي مادته رقم 149 نص دستور 1923 أول دستور للمملكة المصرية بعد استقلالها علي أن «الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية». وهي المادة التي ظل مضمونها قائما عبر كل ما تلي ذلك من دساتير. مع كون صياغة «الإسلام دين الدولة» أبلغ دلالة من «الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع». والشاهد أن مضمون هذه المادة مكون أصيل من مكونات الدستور، منذ أن كان لمصر دستور. وفي كتابه «نظرة جديدة في سيرة رسول الله» يتحدث الوزير الروماني «كونستانس جيورجيو» عن «الصحيفة» التي كتبها رسول الله صلي الله عليه وسلم، فور وصوله إلي المدينة، والتي يسميها بعض الفقهاء والمؤرخين «الوثيقة» وبعضهم «الدستور»، وهو المسمي الذي يعتمده «جيورجيو» إذ يقول: «حوي هذا الدستور اثنين وخمسين بندا: خمسة وعشرون منها خاصة بأمور المسلمين، وسبعة وعشرون مرتبطة بالعلاقة بين المسلمين وأصحاب الأديان الأخري. وقد دُون هذا الدستور بشكل يسمح لأصحاب الأديان الأخري بالعيش مع المسلمين بحرية، ولهم أن يقيموا شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير أن يتضايق أحد الفرقاء». وهو نص كاتبه مسيحي يشهد بأن «دولة الإسلام» الأولي خصصت أكثر من نصف دستورها ل«أصحاب الأديان الأخري» ما يؤكد أن الإسلام مبدئيًا، منذ اللحظة الأولي وطوال تاريخه لم يتوقف عند حدود «الاعتراف» بحرية الاعتقاد، وحق أبناء العقائد الأخري في ممارسة شعائرهم فحسب، بل حرص علي تدوين ذلك الاعتراف وهذا الحق في أرفع مدوناته القانونية شأنا، أي دستور المدينة، الذي جعل «المواطنة» لا «العقيدة» أساس العلاقة بين «أهل المدينة» من مسلمين ويهود، حيث نصت الصحيفة علي أن «يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم». وجاء فيها أيضا أن «يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة». ولا يفوتني أن ألفت النظر إلي ما في صياغة هذه «المادة» من مراعاة لحقوق أهل العقائد الأخري، علي نحو يسمو فوق العدل نفسه، إذ نجد الرسول، ومع أنه نبه المسلمين إلي كراهية إطلاق اسم «يثرب» علي المدينةالمنورة، يعبر عن المدينة بالاسم الذي أشار هو نفسه إلي كراهيته «يثرب»: من ناحية لأن هذه الكراهية لا تلزم اليهود وهم مواطنون مخاطبون بالصحيفة ومن ناحية أخري لإغلاق الباب أمام الاستغلال سيئ النية لهذا الاختلاف في التسمية، ومما ورد في الصحيفة أيضًا من مواد «المواطنة»: أن «الجار كالنفس غير مضار ولا آثم»، ومقتضي «الجار كالنفس» هو المساواة المطلقة في الحقوق والواجبات بين المخاطبين بالصحيفة علي اختلاف عقائدهم، مبدأ نعبر عنه الآن بقولنا «المواطنون متساوون أمام القانون»، ومساواة تؤكدها مادة أخري في «الصحيفة» تقول: «وإن علي اليهود نفقتهم وعلي المسلمين نفقتهم، وأن بينهم النصر علي من حارب أهل هذه الصحيفة، وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم». وهي مادة تحرص علي تسجيل الالتزام ب«البر دون الإثم» أي: الالتزام بتنفيذ الالتزامات بحسن نية، و«حسن النية» هذا هو ما أحسب أننا في حاجة إليه، لنستكمل هذه المراجعة، متمتعين بأقصي درجات المصارحة والأمن، ووجودهما معًا يطمئننا إلي بقاء قاعدة للمواطنة يمكن الاستناد إليها والبناء عليها.