صحيفة عبرية: اغتيال هاشم صفي الدين    سيراميكا يكشف كواليس استدعاء الأهلي للتحقيق مع أحمد القندوسي    وظائف هيئة الرقابة النووية والإشعاعية 2024.. تعرف على التخصصات    البابا تواضروس الثاني يلتقي مديري المستشفيات الكنسية بالقاهرة    «الحصاد الأسبوعي».. نشاط مكثف لوزارة الأوقاف دعويًّا واجتماعيًّا..    فتح باب الترشح لانتخاب التجديد النصفي لنقابة الصحفيين في الإسكندرية    تراجع أسعار الذهب عقب إعلان بيانات الوظائف الأمريكية    عمرو أديب: "رأس الحكمة" استثمار واعد يستهدف جذب أكثر من 8 ملايين سائح سنويًا    منسق «حياة كريمة» بالقاهرة: إقبال كبير من المواطنين على منافذ بيع اللحوم    كورسات في اللغة الإنجليزية من الجامعة الأمريكية لذوي الهمم.. اعرف المواعيد    حقيقة إلغاء الواجبات المنزلية والتقييمات الأسبوعية.. التعليم تحسم الجدل    القوات الروسية تقضي على 80 عسكريا أوكرانيا وتدمر 17 آلية في مقاطعة "سومي"    تصاعد النزوح في لبنان وسط القصف الإسرائيلي واستنفاد قدرات مراكز الإيواء    "تعليم دمياط" تشارك في "بداية " ب ورش وندوات لتنمية مهارات الطلاب    قطر يتعرض للهزيمة من الأهلي في غياب أحمد عبد القادر    مجدي عبد الغني: الزمالك لديه الحق في "التحفيل".. كهربا تراجع مستواه وهناك لاعبون يدخنون "الشيشة"    بليغ أبوعايد: فوز الأهلي على برشلونة إنجاز عظيم للرياضة المصرية    الإسماعيلي يسعى لاستعادة أحمد محسن وسط أزمة القيد    أجواء معتدلة وسحب منخفضة.. الأرصاد تعلق تفاصيل طقس السبت بدرجات الحرارة    ضبط 3000 عبوة مواد غذائية منتهية الصلاحية في كفر الشيخ    تفاصيل الحلقة الأولى من «أسوياء» مع مصطفى حسني    تكريم سهر الصايغ ورانيا محمود ياسين وخالد سرحان بمهرجان الإسكندرية السينمائي    بعد حلقة الدحيح.. ما قصة صدور حكم بإعدام أم كلثوم؟    «حياته هتتغير 90%».. برج فلكي يحالفه الحظ خلال الأيام المقبلة    الفنانة الفرنسية ماريان بورجو: «محمود حميدة عملاق وأنا من جمهوره»    خالد حماد: فيلم «معالي الوزير» أصعب عمل قدمت به موسيقى تصويرية    «قصور الثقافة»: مهرجان الإسماعيلية الدولي للفنون الشعبية أكبر من فكرة رقص    قصة أهل الكهف.. رحلة الإيمان والغموض عبر الزمن    تدريب الأطباء الشباب وتعزيز التقنيات التداخلية، توصيات المؤتمر الدولي لجراحة الأوعية الدموية بجامعة المنصورة    حملة «100 يوم صحة» تقدم 3.6 مليون خدمة طبية في سوهاج منذ انطلاقها    من هو أفضل كابتن للجولة السابعة من فانتازي الدوري الإنجليزي؟    اعتداء وظلم.. أمين الفتوى يوضح حكم غسل الأعضاء أكثر من ثلاث مرات في الوضوء    اختلفت المناطق والأدوار وتشابهت النهايات.. سر جثتين في عين شمس وحلوان    حدث في 8 ساعات| إطلاق مشروع رأس الحكمة التنموي.. ورصد أكبر انفجار شمسي    "السبب غلاية شاي".. إحالة موظفين بمستشفى التوليد فى مطروح للتحقيق -صور    طريقة سهلة لتحضير بسكويت الزبدة بالنشا لنتيجة مثالية    الطب البيطري بدمياط: ضبط 88 كيلو لحوم مذبوحة خارج المجازر الحكومية    مستوطنان إسرائيليان يقتحمان المسجد الأقصى ويؤديان طقوسا تلمودية    الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل عسكريين اثنين في معارك جنوب لبنان    شركات عالمية ومصرية وإماراتية.. تفاصيل إطلاق شراكة لتعزيز الابتكار في المركبات الكهربائية الذكية    أعضاء حزب العدل في المحافظات يتوافدون للتصويت في انتخابات الهيئة العليا    المرصد العربي يناقش إطلاق مؤتمرًا سنويًا وجائزة عربية في مجال حقوق الإنسان    واعظ بالأزهر: الله ذم الإسراف والتبذير في كثير من آيات القرآن الكريم    مصرع «طالب» غرقا في نهر النيل بالمنيا    مصرع شاب وإصابة آخر في حادث تصادم بالغربية    وزير الاتصالات يلتقي مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة للتكنولوجيا    جيفرسون كوستا: أسعى لحجز مكان مع الفريق الأول للزمالك.. والتأقلم في مصر سهل    قناة السويس تكشف حقيقة بيع مبنى القبة التاريخي    الأنبا توماس يستقبل رئيس وزراء مقاطعة بافاريا الألمانية    منظمة الصحة العالمية تحذر من خطر انتشار فيروس ماربورغ القاتل    سليمان: زيزو أيقونة زملكاوية.. وبنتايك مثقف جدا    أذكار يوم الجمعة.. كلمات مستحبة احرص على ترديدها في هذا اليوم    السيطرة على حريق بخط غاز زاوية الناعورة بالمنوفية    الإسكان: إزالة مخالفات بناء وظواهر عشوائية بمدن جديدة - صور    جيش الاحتلال يصدر أوامر إخلاء عاجلة لسكان 20 قرية في جنوب لبنان    «وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ».. موضوع خطبة الجمعة اليوم    هيئة الأرصاد تكشف عن موعد بدء فصل الشتاء 2024 (فيديو)    حقيقة اغتيال هاشم صفي الدين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خليل كلفت يكتب: مذبحة ماسپيرو تضع الثورة أمام التحديات والأخطار الكئيبة
نشر في الدستور الأصلي يوم 14 - 10 - 2011

وضعت مذبحة ماسپيرو فى 9 أكتوبر الشعب المصرى والثورة المصرية بصورة مفاجئة ومفزعة ووجها لوجه أمام أحد الأخطار والتحديات والسيناريوهات الكئيبة التى تدَّخرها الثورة المضادة التى لم تتورع ولن تتورع عن اللجوء إليها عند الضرورة. إنه سيناريو إحراق الثورة فى أتون الفتنة الطائفية. ومع هذا التطور الكئيب صار المسيحيون فى مصر أمام احتمال مصير مأساوى وصار الشعب المصرى كله مسيحيِّين ومسلمين أمام احتمال أن تقذف بهم الثورة المضادة إلى حريق هائل يأتى على ثورتهم المجيدة وعلى وجودهم ذاته لإنقاذ النظام فوق جماجم الشعب مسلمين ومسيحيِّين.
لقد صار المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية يملك من الحزم والعزم ما يجعله يقوم أمام العالم كله بتنظيم مذبحة للمسيحيين على الهوية بدم بارد ثم يسبقهم فلا يتبرأ منها فحسب بل يتهم الضحايا بأنهم هم الذين اعتدوا على الجيش والشرطة العسكرية والأمن المركزى وفتكوا بأفراد كل هذه القوات التى كانت مجردة من السلاح، إلخ.، الأكاذيب التى لا تستحق إضاعة الوقت لسردها أو تفنيدها.
وخرجت أشرس القوى السياسية الدينية تروِّج نفس الأكاذيب، وتحرِّض ضد المسيحيِّين الذين اعتدوا على الجيش وفقا لمزاعمها، وتقوم بصورة مباشرة بتوسيع نطاق مواجهات الفتنة الطائفية التى كانت مجموعات من هذه القوى بالذات هى التى أشعلت شرارتها هذه المرة من أسوان كما فعلت دائما منذ الثورة وعلى مدى عقود قبل الثورة.
وهكذا صارت كل قوى الثورة المضادة: القيادة العليا للجيش وقيادات الإسلام السياسى ورجال مبارك والحزب الوطنى الذين يسيطرون على الإعلام بكل وسائله الصحفية والتليڤزيونية والإذاعية وغيرها وعلى كل شيء آخر فى إدارة البلاد تمتشق السلاح ضد المسيحية فى مصر لتقتل وتذبح وتغطِّى إعلاميا. ولماذا؟ لأن حكامنا الحاليِّين والطامحين إلى حكمنا فى أقرب وقت يجدون أن الفتنة الطائفية ليست خطا أحمر بل هى وسيلة ممتازة من وسائل إجهاض الثورة وتصفيتها لااستعادة نفس النظام السابق بدون أسرة مبارك.
وهكذا حكموا على المسيحيِّين فى مصر بأن يكونوا غرباء فى وطنهم كحدٍّ أدنى أو أن يكونوا وقودًا فى حرب الثورة المضادة ضد الشعب المصرىّ كله إذا دعت ضرورات القضاء على الثورة.
ولا شك بطبيعة الحال فى أن المجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية بالذات من مصلحته أن يفضِّل خيار تصفية الثورة من خلال عملية تدريجية طويلة دون اللجوء إلى صراع طائفى أو حرب أهلية أو مواجهات واشتباكات واسعة النطاق بين الجيش والشعب لأن مثل هذه التطورات يمكن أن تخرج فى مرحلة ما عن سيطرته ومخططاته بل يمكن أن تنقلب عليه. غير أنه ينظر إلى هذه الأشياء على أنها وسائل تبررها الغاية المتمثلة فى الحيلولة دون أن تتواصل الثورة لتحقيق أهدافها الحقيقية التى لن تقف عند حد بحكم طبيعة كونها ثورة.
ولكنْ هل استنفد المجلس الأعلى كل الوسائل السلمية ليلجأ إلى الحرب أو إلى أشكال حربية رغم خطورة هذا عليه أيضا؟ والحقيقة أننا لو نظرنا إلى سلوك المجلس الأعلى من زاوية الحكمة التى تقتضيها مصالح الطبقة المالكة العليا فى البلاد، وهو جزء منها، سنجد أن هذا السلوك يُجافى كل حكمة، غير أن السلوك السياسى للمجلس لا يتحدد من جانب واحد بكونه الممثل السياسى للطبقة المالكة العليا فى مصر بما يُفترض فيه من حكمة، فالحقيقة أن سلوكه يتوافق أيضا مع عقليته العسكرية، وقلة تجربته السياسية والإدارية، والجمع بين القوة المطلقة والجهل المطبق بحكم طبيعة النظام البائد وحكم الشخص والأسرة وتأثير كل ذلك على كل مؤسسات الدولة بلا استثناء، وتشبُّعه بالتالى بأساليب وقِيَم وعقلية نظام مبارك والنظام العسكرى القائم فى البلاد منذ قرابة ستين عاما.
وتستحوذ على عقلية المجلس مكوِّنات الأسطورة التى حاول ويحاول أن يخلقها لنفسه والهالة التى يريد أن يحيط بها نفسه. فهو يحاول خلط الأوراق مصوِّرًا انقلابه على مبارك تحت ضغط الثورة لإنقاذ النظام وتصفية الثورة على أنه كان تدخُّلًا لحماية الثورة وإنجاحها، ومصوِّرًا أن المجلس هو الجيش والجيش هو المجلس متَّهما كل مَنْ ينتقد سياساته بأنه يحاول إحداث وقيعة بين الجيش والشعب، زاعما أن الجيش خط أحمر دون أىّ مؤسسة أخرى ودون الشعب ذاته. وانطلاقا من كونه المؤسسة الأمنية الوحيدة التى ظلت متماسكة بعد هزيمة الشرطة أمام الشعب فى بداية الثورة، وانطلاقا من واقع الحالة المتشرذمة وحتى المتعادية بين قوى الثورة بما أدى إلى عجزها عن تكوين مجلس انتقالى وناهيك بجمعية تأسيسية مما يجعله حاكم الأمر الواقع الوحيد الذى لا بديل له، ولأن تسييس الشعب لم ينضج تماما بعد، يتصور المجلس أن محافظته على هيبته تقتضى أن "يقود" الشعب كله كما يقود القوات المسلحة بالأوامر والضبط والربط وإصدار الفرمانات والمراسيم العلوية دون مناقشة، وأن محافظته على هيبته تقتضى أن يمارس السياسة بالمنطق العسكرى الذى ينطوى على مستويات من الخشونة والعنف فى كل الأحوال وفى كل الأوقات.
ولكل هذا يجد المجلس نفسه أمام ضرورتيْن متناقضتيْن ضاغطتيْن: ضرورة مستوى عالٍ من المرونة لجعل عملية تصفية الثورة تدريجية وطويلة وخالية من مخاطر انهيار النظام، باستخدام التباطؤ بذكاء مع تحقيق جدى لمطالب الثورة، وباستخدام سياسة "فَرِّقْ تَسُدْ" مع القوى والأحزاب السياسية بطريقة خفية بعيدا عن الطرق الصارخة المتبعة الآن، مع الابتعاد عن العناد المفرط واستفزاز قوى الثورة، من ناحية، ومن ناحية أخرى، ضرورة الوصول بالنظام إلى بر الأمان بأقصى سرعة ممكنة وبكل وسيلة ممكنة خشية المخاطر التى ينطوى عليها استمرار الأشكال المتنوعة التى تتخذها الثورة حيث تنفجر فى وجه النظام كل مطالب ونضالات رفع كل المظالم وإحقاق كل الحقوق وكسر كل القيود وإطلاق كل الحريات.
ولهذا يعمد المجلس الأعلى إلى سياسات وإستراتيچيات ووسائل رغم المخاطر التى تنطوى عليها هذه الأشياء حتى عليه. فلا شك فى أن ترك الحبل على الغارب للإسلام السياسى لدفعه إلى الصدام مع قوى الثورة والتغاضى عن إثارته للفتنة الطائفية ضد المسيحيِّين ينطوى على خطر خروج هذه القوى عن سيطرته الحالية (فى إطار الخديعة السياسية المتبادلة بين المجلس والقوى السياسية وفيما بين هذه القوى ذاتها)، وهو هنا يستفيد بالدور الهائل الذى تلعبه قوى الإسلام السياسى بالتعاون معه ضد الثورة وضد أنشطتها ونضالاتها ومبادراتها إلى حد كسر إضراباتها. كما يستفيد المجلس بالترويع الذى تمارسه هذه القوى، جنبا إلى جنب مع المجلس والحكومة والإعلام و"فلول" الحزب الوطنى التى تسيطر إداريا على جهاز الدولة بأكمله، ضد القوى الحية المخلصة للثورة.
على أن تورُّط المجلس فى تنظيم مذبحة ماسپيرو للمسيحيِّين، بالاستخدام المباشر للجيش والشرطة العسكرية والأمن المركزى والبلطجة وبالتواطؤ مع قوى الإسلام السياسى ومع كوادر الحزب الوطنى، يدلّ على أنه لا يتورع عن جرّ البلاد إلى شفا الحرب الأهلية وإلى أتونها، حيث تُعْمِيه طريقته فى فهم مصالحه ومصالح النظام والطبقة الرأسمالية التابعة عن حقيقة أن هذا المسار لن يدمر الشعب فقط ولا المسيحيِّين فقط ولا الثورة فقط بل يمكن أن يدمر المجلس والنظام والطبقة جميعا كذلك.
ولكنْ لماذا هذا الجنون من مجلس كان ذكيا وعاقلا عندما قام بانقلابه ضد مبارك لحماية النظام والطبقة المالكة بنزع فتيل الثورة حتى بعد انفجارها عن طريق إزالة الهدف الذى أجمعت عليه كل القوى المشاركة فى الثورة أىْ إزاحة شخص مبارك وأسرته وعدد من الحلقة الضيقة جدا من رجاله؟ وكيف تصوَّر المجلس أنه سيبقى وأن النظام سيبقى بعد أن يصل بنا هذا المسار بقيادته الطائشة إلى الحرب الأهلية التى لن تقف عند الفتنة الطائفية ضد المسيحيِّين بل ستتطاحن فيه الثورة والثورة المضادة بكل قطاعاتهما بما فى ذلك الحرب الداخلية فى صفوف الثورة المضادة نفسها؟ غير أن هذا الجنون هو الذى يسود العالم العربى كله الآن حيث تتصور الدول والجيوش والأنظمة والطبقات الحاكمة أن الثورة ستدمرها فى كل الأحوال فلا تجد مناصا من تدمير كل شيء على أمل احتمال ضئيل فى الانتصار بالقضاء على الثورة مع أنه سيكون مستحيلا عليها أن تملك وتحكم حتى إذا حققت هذه المهمة المستحيلة. فكيف تصور القذافى أنه سيحكم بعد أن يدمر الشعب والوطن، وكيف يتصور الرئيسان السورى واليمنى أنهما سينجوان بنظاميْهما بعد تدمير كلٍّ منهما لشعبه ووطنه؟!
إنه الجنون؛ جنون الثروة والسلطة، جنون السياسات التى جرى انتهاجها قبل الثورة بما جعل الثورة أمرا لا مناص منه ولا سبيل إلى تفاديه، جنون أن يجد هؤلاء الزعماء المجانين أنه لا مفر أمامهم سوى المزيد من الجنون تفاديا للمحاكمة المحلية أو الدولية وتفاديا للإعدام أو السجن مدى الحياة. فهؤلاء الزعماء المجانين يحاربون إذن وظهرهم إلى الحائط ولسان حالهم يقول "أنا ومن بعدى الطوفان"، فيتبعون سياسة الأرض المحروقة التى ستحرق الجميع رغم الوضوح الصارخ لهذا المصير.
فما الذى يمكن أن ينقذ مصر من الجنون الذى يسيطر على ليبيا وسوريا واليمن بعد أن بدا أنه استثنى تونس ومصر؟! وهنا تظهر المفارقة الصارخة التى تتمثل فى أن المجلس العسكرى للقوات المسلحة المصرية بدأ بخطة ذكية لإنقاذ النظام عن طريق إجهاض الثورة وتفادى صراع يمكن أن ينتهى إلى الحرب الأهلية عن طريق التخلص من مبارك الذى اعتبره أكبر أسباب الثورة ولكنه ينتهى الآن إلى أن يقوم بنفسه بجرّ البلاد إلى المصير الذى عمل فى البداية على تفاديه، من خلال سياساته المتواصلة بعناد ضد مطالب الثورة ونضالاتها، ومن خلال الإصرار العنيد على تنفيذ برنامجه بالكامل فى مجال التعديلات والإعلانات الدستورية والانتخابات الپرلمانية والرئاسية، والإصرار على أن تكون له اليد العليا فى المرحلة "الانتقالية" وما بعدها، ومن خلال سياسة "فَرِّقْ تَسُدْ" التى يُذْكى بها نار الصراع بين مختلف القوى السياسية، وأخيرا وليس آخرا اللجوء إلى تشجيع الفتنة الطائفية من خلال طريقة التعامل مع أحداثها وجرائمها وصولا إلى التنظيم المباشر لمذبحة ماسپبيرو التى ستظل جرحا مفتوحا يمزق الضمير المصرى كما يمكن أن يكون مجرد "پروڤة" لطوفان الفتنة الطائفية والحرب الطائفية والحرب الأهلية.
وكان من السهل تماما وضع حدّ للتطورات التى انتهت إلى المذبحة البشعة التى ستقض مضاجعنا من الآن فصاعدا. كان من السهل إقالة محافظ أسوان الذى طالب بإقالته النوبيون لما ارتكبه فى حقهم والأقباط لما ارتكبه فى حقهم غير أن المجلس الذى جدد له كمحافظ لأسوان رغم تغيير معظم أو كل المحافظين تقريبا يصرّ بدكتوراة فى العناد على بقائه، واستهتر المجلس بكل الاحتجاجات ضد بقاء ذلك الشخص محافظا لأسوان. وكان ينبغى اعتقال ومحاكمة ومعاقبة الأهالى الذين أشعلوا الفتنة من قرية مريناب ومحاكمة ذلك المحافظ لأنه ترك آحاد الناس يتدخلون فى قضية حساسة مثل بناء الكنائس إلى حد تدمير كنيسة بالنيابة عن الدولة الغائبة. وكان على الدولة أيضا إصدار القانون الموحَّد لدور العبادة. وكان على الدولة مواجهة كل القوى التى ساهمت بالتحريض والعمل المباشر فى أعمال طائفية ضد المسيحيِّين منذ بداية الثورة الراهنة. وكان توجُّه المسيرة الاحتجاجية إلى ماسپيرو معروفًا سلفا وبالتالى كان على الدولة حراستها وحمايتها ضد قوى الحزب الوطنى والإسلام السياسى والبلطجية. وكان على المجلس الأعلى، حاكم الأمر الواقع، أن يباشر كل الإجراءات الكفيلة ليس فقط بحماية الاحتجاجات بل كذلك بتحقيق مطالبها على الفور. ولا مجال للتنصل من المسئولية ولا مصداقية للتفسيرات التى قدَّمها المجلس مثل دعاوى أن قتل المسيحيِّين لم يكن من عمل الجيش رغم شهادات العيان الوفيرة ورغم المدرعة المندفعة بجنون ليدهس ويُسوِّى خلق الله بالأرض. ثم لماذا يتدخل الجيس أو الأمن لفض تظاهرات أو اعتصامات أو إضرابات بالقوة رغم أن هذه الحقوق مكفولة فى الدستور.
وقد شهدت ميادين مصر قتل المئات وجرح الآلاف أثناء الثورة على يد مؤسسة من مؤسسات الدولة وكان هذا هو المنطق الطبيعى فى صدام الثورات والثورات المضادة بين الجماهير وقوى الأمن، أما قيام الجيش ذاته، مدعوما بالإعلام وبدعاية وتدخلات قوى الإسلام السياسى و"فلول" الحزب الوطنى والبلطجية؛ هؤلاء القتلة بأجر لحساب مَنْ يدفع، بالاشتباك مع جماهير كان أغلبها من المسيحيِّين وارتكاب تلك المذبحة الطائفية الدينية البشعة فهو شيء آخر. إنه القتل المنظم الرسمى الذى تمارسه الدولة المصرية "على الهوية"!
وهكذا يُطْلق أولئك الذين قاموا بإسكات أجراس الكنائس أجراس الإنذار ونواقيس الخطر. والفتنة الطائفية التى يراد إشعالها وسيلة معروفة ومدروسة لتوجيه الثورة أىْ الصراع الطبقى الثورىّ ضد الطبقة الاستغلالية الاستبدادية الحاكمة فى قنوات البؤس والتخلف والتعصب والجهل بعيدا عن المساس بالطبقة والنظام والمجلس، مع أن نيران الفتنة ستحرق الجميع. وهكذا يحاول المجلس أن يجرّ بلادنا وشعبنا الآن إلى المصير الكارثى المهلك الذى حاول من قبل أن يتفاداه عن طريق تنحية مبارك!
فما العمل مع هذا المجلس الذى يحكم (فى غياب بديل حقيقى ساهم هو نفسه بسياساته على تغييبه) منفذا بصورة ممنهجة مخططا جهنميا من الانتخابات الپرلمانية والرئاسية بطريقة تضمن له الحكم العسكرى المموَّه بواجهة مدنية زائفة؟
والحقيقة أن القوى المخلصة للثورة حتى النهاية تستطيع رغم قوتها العددية الأقلّ أن ترجِّح كفة تفادى الحرب الطائفية والحرب الأهلية بفضل ميزتها على قوى الثورة المضادة التى شاركت فى الثورة ضد مبارك وعلى المجلس والنظام والطبقة جميعا. فبصورة متواصلة وفى كل يوم يخسر المجلس والإخوان والسلفيون والقوى الحزبية القديمة والجديدة المتواطئة قلب الشعب لأنهم جميعا يقفون ضد مطالبه ونضالاته ويشتركون فى قمعه وكسر إضراباته، على حين أن قوى اليسار والديمقراطية والليبرالية اليسارية والقوى الشبابية المؤمنة بالحرية والكرامة الإنسانية والعدالة والمعادية حتى النهاية للفساد والاستبداد هى التى أشعلت شرارة الثورة واستمرت بالثورة إلى الآن ضد مؤامرات القوى الأخرى وهى التى تقف بحزم مع حقوق الشعب وحرياته ومطالبه، وهذا ما يجعلها قادرة على مواجهة ممتدة كسب فيها قلب الشعب وما يزال من الممكن أن يكسب من خلال تطور الثورة قلب قطاعات الشعب التى ما تزال غير مسيَّسة والتى يجعلها عدم تسييسها رصيدا لقوى الثورة المضادة فى الانتخابات كما فى مواجهات الفتنة الطائفية وغيرها.
والآن بعد أن قمنا بدفن شهداء ماسپيرو علينا ألا ننسى دماءهم الزكية وأن نحاكم ونعاقب كل من تسبب بصورة مباشرة أو غير مباشرة فى هذه المذبحة المشينة البشعة وعلينا أن ننظر إلى الأمام، إلى النضال الثورى السلمى العنيد من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، من أجل تحويل مصر إلى بلد صناعى، ومن أجل تحقيق الاستقلال الحقيقى لمصر بدلا من التبعية الاستعمارية القائمة، وعلينا وضع حد لتكرار المذابح الطائفية بدستور يطهر نفسه من المواد الدستورية التى تشكل معا الأساس الدستورى للطائفية وتقسيم الشعب حسب الديانة بعيدا عن المواطنة والوحدة الوطنية وبقية الشعارات التى نتغنى بها ليل نهار بنفاق لا جدال فيه رافضين بكل السبل وضعها موضع التنفيذ.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.