ظهيرة جمعة 28 يناير كاشفة، ساطعة بالحقيقة، كشمس الخروج للنهار.. بعد صلاة تلك الجمعة العظيمة خرج الناس للشوارع والميادين، خروج المساجين والأسرى من ظلام طويل، خرجوا من كل فج عميق، فاتحين عيونهم، وصدورهم للنور. وكان اللواء الركن المهيب وسط قوات أمنه المركزي، يحتل ميدان الجلاء، ومدخل الكوبري. بالتحديد، كان يعسكر، هو ومساعدوه وقواته، أمام فندق شيراتون القاهرة، ويسد شوارع: النيل، والتحرير، ومراد. ويغلق الطريق إلى ميدان التحرير بجنود، وسلاح، ومصفحات من حديد. كان ينتظر الآتي بقلق، مترقبًا، ومتوجسًا. كان غاضبًا، حانقًا، مختلطة مشاعره، بعد اتصال لاسلكي بكبيره، برئيسه. بعد المكالمة ارتسم على وجهه السخط، وصار كوحش يشحذ أنيابه استعدادًا للفتك بحملان وغزلان، آتين في الطريق. ومع ذلك كان يجاهد، يحاول السيطرة على نفسه كما تعلَّم، لكن عروق وجهه النافرة كانت تهتز، وترتعش حواف فمه المزموم، وشفتاه المتعطشتان للدم. "يجب ألا تهتز، استجمع ثباتك، ورباطة جأشك، واستعد.. الوليمة في الطريق إليك". يُحَدّث اللواء نفسه. أشاح بوجهه عن قواته لحظات، يحدق في نادي القاهرة، واتجاه ميدان التحرير، وهو يتجرع زجاجة ماء معدنية كبيرة، في رشفة واحدة. ارتوى، واستجمع أخيرًا قواه، وتنحنح بقوة، كما يليق بزعيم مهيب، وتحرك خطوتيْن في اتجاه قواته. قواته مرصوصة أمامه، أنيقة في السواد، والخوذات الزجاج، والدروع والعصي الكهربية، والرشاشات، والبنادق، ومتأهبة لتلقي الأمر. ببطء تحرك خطوات، عاقدًا يديه خلف ظهره، ناظرًا مرة للأسفلت، ومتأملاً، مرة، صفو السماء، ثم خطر له أن يلقي في جنوده خطابًا مرتجلاً يشحذ به عزمهم، وعزمه هو شخصيًا. أشار لمساعده الأثير بيده، فأتوا بميكرفون، ومنصة مؤتمرات فخمة من الفندق، ونصبوها في وسط كوبري الجلاء، فصار النيل، والأوبرا خلفها، وأمامها الجنود مصطفين. وراء المنصة وقف اللواء بوجهٍ جهم، فرد يديه وأسند كفيّه المفتوحتين إليها، وتكلم، فَبَسْمَل، ثم أثنى على بطولة قواته خلال الأيام الثلاثة الماضية، وذكر أنه يعرف أنهم مجهدون، مرهقون، لكن الأبطال لا يتعبون، ولا تلين لهم عزيمة. وقال اللواء: "الناس دول كلاب وخنازير، وأعداء لمصر، وللوطن، والدين. الأوغاد دول هم أعداء الشعب، دول يهود، صهاينة وجواسيس، احنا واحنا قدام كوبري الجلاء، بقول لكم لازم نجليهم عن البلاد.. يغوروا في ستين داهية.." بعد ذلك نقحتْ على اللواء ميوله الأدبية القديمة! فصاح في ضباطه وجنوده، وراح يصول، ويجول: "أنت، يا بطل، تدافع عن بلدك، عن مصر، عن شرفك وعرضك، عن أمك وأبيك ضد هؤلاء المدسوسين، القلة المأجورين، أعداء مصر، أعداء الإسلام، والمسيح.. لا تأخذك بهم رأفة، ولا رحمة، أتريد أن ترحم المجرمين، القتلة، الخارجين عن القانون، والدين .. هؤلاء ليسوا بمصريين يا جندي مصر الأمين، المصريون لا يتظاهرون، لا يتجمهرون، لا يخرقون النظام، لا يحرقون البلاد، المصريون طيبون، مثل أمك وأبيك، يجب أن يبقوا في البيوت، يجب أن يشكروا الله على فضله ونعمته، ويطمئنوا ويناموا، فنحن هنا من أجل أن نسهر على أمنهم وأمانهم. احنا الأمن والأمان.. احنا أسياد البلد، لازم تفهموا كده كويس. اضرب، اضرب فيهم بيد من حديد، عصاك كهربية تشل المجرمين، وأنت مُؤَمَّن جيدًا، بدرعك، وخوذتك، وجيشنا كبير، نحن نتدرب منذ سنين من أجل هذا اليوم المجيد، يوم الدفاع عن الوطن ضد المفسدين، ثم.. هل ترضى أن تُغتَصب أمك وأختك؟ " فزع جندي أمن صعيدي، وكاد أن ينطق "لا". زعق اللواء : " رُدوا " صاح الجميع "لا" واحدة كبيرة، ممطوطة. "إذن أيها الجندي البطل اضرب، اضربهم بيد من حديد وفولاذ، لا تتركهم يتقدمون، لا تتركهم لميدان التحرير يصلون، هؤلاء الكفرة الملاعين، كفروا بنعمة ربنا، وبالأمن والاستقرار.. وتذكر وأنت ترفع عصاك عاليًا، وتضربهم، أنك، أنت، حارس شعب مصر الأمين، أنت الأمن، سنسحقهم، ونردهم خائبين، اضرب يا جندى يا جدع.. يا شهم.. اليوم يوم الجِد، نبيدهم عن آخرهم، ونعود لمعسكرنا، وستتحسن أموركم بما لا تحلمون به، مكافآت، وأوسمة، وتكريم. هيا للعمل، اضربهم، اضربهم، إياك أن تتقهر أمامهم، بيننا وبينهم مصر، والعلم، والنشيد، هؤلاء المأجورون، عملاء لليهود، للصهاينة، والأمريكان، والأمور تُدار من هناك.. من بعيد، الصهاينة والأمريكان يدفعون لهؤلاء الجواسيس، ونحن سنسحلهم سحل الذباب والصراصير. اثبت أيها الجندي البطل وقاتل، أنت مسلح، مدرب، واثق من نفسك، والنصر، وهم عزل، هايفين وخرعين، اضرب بيد من حديد، لنا النصر، النصر لمصر، وللأزهر، والكنيسة، والهرم، والنيل. والله العظيم ليس وسام نجمة سيناء عنكم ببعيد! اضربوهم، وفرقوهم، أنت جندي في معركة، لا تأخذك شفقة، ولا رحمة بهؤلاء القتلة الفجرة، العزم يا شباب.. العزم يا أبطال، ليمت منهم من يموت، موت الكلاب، لا حساب لهم، ولا وزن، هم أعداؤك، أعداء أمك وأبيك، إياكم أن يعبروا كوبري قصر النيل، أو أن يصلوا لميدان التحرير.. إلى النصر يا أبطال.. إلى الأمام.. إلى الأمام!!" كان الجنود منهكين، متعبين، مجندين فقراء، أبناء فقراء، ومعوزين، يقضون ثلاثة أعوام في هذا الشقاء والتعب، لم يتعلموا، لا يقرأون ولا يكتبون، ولكنهم الآن يفهمون شيئًا واحدًا، إطاعة الأمر، وأنهم يجب أن يبيدوا الخونة، الصهاينة، المتظاهرين! وكان آخر ما نطق به اللواء: " شدوا الجرذان.. شدو الجرذان" بما يعني "شدوا الفيران، شدوا الفيران"!! أنهى اللواء خطبته بأمر قواته بالتأهب والاستعداد، حين تناهى إليه صوت كالرعد. كان الشعب قادمًا من كل شارع وميدان، يسبقه هدير خطواته على الأرض، يسبقه هتافه بالحرية، صوته العظيم.. صوت يزلزل الأرض والسماء.