مازلت أذكر أحداث هذا اليوم وكأنها حدثت بالأمس القريب. كان يوما من أيام خريف عام 1992, وكنت وقتها حاصلا علي درجة الماجستير حديثا وأتلمس أي بصيص من نور لينير لي ظلمة العمل كطبيب في مستشفيات المحروسة. عندما قرأت اعلانا في جريدة الأهرام عن وظائف لكل التخصصات والدرجات الطبية في نيجيريا برعاية نقابة الاطباء. وبلاتفكير قلت لنفسي –وكنت قد أعتدت أن أكلمها كثيرا حينذاك !- نيجيريا, نيجيريا.. أو حتي مجاهل افريقيا, فلا بأس! سأذهب وأري, وكما يقولون ليس بالامكان أسوأ مما كان!!. ذهبت فعلا في اليوم الموعود في الصباح الباكر الي مقر السفارة عند نيل الزمالك. ووصلت الي المكان قبل الميعاد المحدد بدقائق. فرأيتها فرصة أن أسير قليلا بجوار الكورنيش أستروح نسمات الخريف بصباحه عذب البرودة, وكنت متفائلا خيرا. دخلت مبني السفارة قبل الثامنة بدقائق, وكنت أظنني أول الوافدين. ألا انني عرفت يومها مقدار سذاجتي عندما وجدت في البهو الرحيب مالايقل عن 400 طبيب يتصارعون علي طلبات التقديم. تعلو أصواتهم ويكادون أن يتشابكوا بالأيدي ويدفعون بعضهم بعضا حتي يجدوا مكانا علي المناضد لمليء الطلبات. وكانت هناك موظفة في السفارة قد أوقعها حظها العاثر وسطنا. مازلت أذكر وجهها حتي الأن وهي لاتكاد تصدق المشهد الماثل أمامها وتصرخ بتوسل "أرجوكم يادكاترة بالراحة.. مش كده!" وهي تكاد تبكي. عندما شققت طريقي وسط الزحام ونجحت في التحدث مع موظفة أخري تمسح من علي وجهها المليء بالأسي العرق, كنت قد عرفت أن طلبات التقديم اليوم قد نفذت وأن الباب سيفتح غدا. فمضيت وقد صممت أن أعود باكرا. فحتي يحدث كل هذا, فلابد أن نيجيريا قطعة من الجنة وأن كنت لاأدري!. في ثاني يوم, كنت قد تعلمت الدرس. فوصلت مبكرا بعض الشيء يحدوني الأمل في أن أحصل علي استماره تقديم للعمل في أرض الميعاد.. نيجيريا!. وقبل أن أصل مقر السفارة سمعت أصواتا عالية كأنها معركة حربية. وكلما اقتربت كان الصوت يزداد علوا. فلما وصلت, وجدت مالايقل عن مئة طبيب, يتزاحمون علي بوابة السفارة الحديدية السوداء العالية والتي كانت مغلقة بالسلاسل الحديدية الغليظة. فقلت لنفسي أن لابأس, فقد يكون ميعاد فتح السفارة لم يحن بعد, وستفتح البوابة عما قليل. ولما لمحت جندي الحراسة قابعا في كشكه يتأمل المنظر في استمتاع وتلذذ شديدين, اقتربت منه وسألته عن موعد فتح البوابة. فأجاب- دون أن ينظر الي بعد أن قضم قضمه من سندوتش الفول الذي كان بيده- أن التقديم اليوم من خلال البوابة التي لن تفتح!. فسألته وأنا أناوله سيجارة سوبر- وكنت وقتها لاأزال ادخن- وماذا عن استمارة التقديم يادفعتنا؟ فنظر الي هذه المرة وتناول السيجارة ووضعها وراء أذنه. ثم ضحك من وجهه الأسمر من تحت شاربه العالق به دقيق الخبز. وقال بلكنته الريفية المحببة رابتا كفا بكف, أنه لايعرف استمارة ولا تقديم, بل يعرف فقط ان البوابة لن تفتح اليوم!. وقفت علي الرصيف المقابل موليا ظهري للنيل, اتأمل السادة الأطباء وهم يتزاحمون أمام بوابة السفارة في منظر ذكرني بزحام الموالد أو المخابز المدعمة أو علي أتوبيس في ميدان التحرير الساعة الثالثة عصرا!. وكانت الأعداد تتزايد تدريجيا, عندما فجأه ازداد الهرج والمرج ووجدت أحد الأطباء يعلو متسلقا حتي وصل الي أعلي البوابة الحديدية العالية. ولا أدري حتي الآن كيف وصل لهذا الارتفاع!. فهل تسلق أكتاف زملائه مثلا ولم ألحظه؟ أم أن له أجنحة لا أراها؟ فلست أدري!. وكان محتضنا قمة البوابة عاليا, متشبثا بها لايرضي لها فكاكا, حتي أن خشيت عليه أن يزل, فتخترق قضبان البوابة المدببة كالرماح صدره فتقتله. ويبدو أن وراء البوابة كان هناك شخصا يجمع الطلبات. ورأيتهم يمدون أياديهم بأظرف مستنداتهم وسط القضبان وهم يصرخون صريخا هستيريا. وترددت قليلا قبل ان انضم اليهم ولكن نفسي الأمارة بالسوء أوحت الي قائلة; واشمعني يعني أنت اللي ماتروحش ياواد؟ فعبرت الطريق جسورا غير هيابا عملا بالحكمة الخالدة "يفوز باللذات كل مغامر" فمابالكم بأرض الميعاد؟. وألقيت بنفسي وسط الخضم العاتي من الزملاء الاطباء يتلاطمونني معهم فأتأرجح كيفما أتفق يمنة ويسرة. ورأيت الطبيب المذكور في العلالي يرفس بساقيه في الهواء ويمد يده غير مبال بسنون القضبان التي يحتضنها, ملوحا بمظروف أبيض صارخا مستجديا; معايا دكتورآاه..معايا دكتورآاة!... ويومها لم أنجح في تقديم مظروفي عبر قضبان البوابة السوداء...