في تلك الجمعة التي وقع فيها الانهيار الأمني خلال الأيام الأولي من الثورة، ومع اطلاق عقال موجة البلطجة ضمن خطة أمنية قادتها عناصر شرطية خائنة للدولة هدفت للافزاع والترويع وهدم المعبد كله بعد ان استشعرت انتهاء سلطانها، قلت: لقد دالت دولة مبارك. والأمر لم يكن نبؤة، بقدر ما أنه قانون تعلمناه في علم السياسة. ألف باء دولة هو أن تضطلع السلطة بدور الحراسة. "الدولة الحارسة" تعبير يلخص الإدراك المشترك لدي المواطنين لمعني الدولة. ولعل الخلط المشتهر لدي المصريين واستخدامهم لتعبير الحكومة لوصف الشرطة يختصر المسألة. ومن هذا الادراك لمهمة الحراسة الموكولة لسلطة الدولة يجئ قبول المواطنين للانصياع للنظم والقوانين ويلتزمون بعدم الاقتضاء الفردي.مع الانهيار الأمني وفي تلك اللحظة التي طلب فيها بيان الجيش من الناس أن يحموا بيوتهم بأنفسهم ناعتاً إياهم بالشرفاء، وفي ظل تنامي الضغط الاعلامي الرسمي علي اعصاب الجماهير في ذات الاتجاه، أدرك الناس بفطرتهم أن تلك المهمة التي اوكلوا الدولة للقيام بها قد عادت لحوزتهم. ومع توالي الاثباتات بأن الدولة التي يقودها مبارك قد تخلت عن مهمة تأمينهم، سحبوا كل بيعة وتوكيل ونقضوا كل موالاة لهذه السلطة. وظني في ضوء ما يتواتر من حوادث، أن الأمر ذاته يعود ليطل برأسه لكن علي نحو أكثر خبثاً وأبطأ وتيرة. ولدينا من المؤشرات القوية ما يدل علي توجه غير معلن للتخلي عن مهمة الحراسة، لكنه يجري هذه المرة علي نحو غير ظاهر. والانسحاب هنا انسحاب للفاعلية الأمنية دون الأشخاص القائمين بالتأمين. فكما تري أعيننا، الضباط والأمناء والعساكر موجودون، لكنهم لا يقومون بأدوارهم، ويكتفون عند لجوء الناس إليهم واستنجادهم بالابتسام تشفيا ولسان حالهم يقول: أرونا يا من فرحتم بانهيارنا كيف ستحمون انفسكم بدون تدخلنا. الخطر هنا أن ما شاهدناه وسمعنا به الاسبوع الفائت من معارك وشجارات واسعة النطاق، يبدو مخططا ومرسوما لاحداث الإفزاع العام مرة أخري. الهدف نعرفه من دراسة علم السلوك السياسي الذي يخبرنا أنه حين يخير الناس بين أمنهم الشخصي وأي مطلب سياسي آخر، سواء متعلق بالديمقراطية أو الحريات أو العدل فإنهم يختارون الأمن. وليس من قبيل نظرية المؤامرة القول بأن ما يجري تستهدف به ثلة متمردة تتحالف ودوائر استمرأت الفساد والاستبداد اعاقة توجهات الثورة الديمقراطية.وإلا فليقل لي أحدهم أمعقول أن نعتبر أنه قبيل المصادفة انطلاق شرارة خمسة من اكبر الحوادث في البلاد، والتي شهدت اشتجارات واسعة بين مناطق واحياء وقري وعشائر، من مواقف للميكروباس. إن أي شخص مبتدئ في دراسة الأمن يدرك حقيقة أن كل مدينة أو منطقة لها ما يمكن تسميته بالاعصاب الأمنية وتشمل ضمن ما تشمل الطرق وتقاطعاتها الرئيسية ومحاور المدن، وهي مسارات حركة الناس والتي تقع بها المواقف ومحطات المواصلات التي يستخدمونها. وأن أي انفلات أمني علي هذه الطرق والمحاور والمواقف يعني بالضرورة انقطاع الحياة ووصول رسالة الفزع لكل مار وساكن في هذه المناطق وما يجاورها. ويعلم العائش في مدن مصر كيف ان الميكروباس وعالمه قد اصطلح علي تسميته بالامبراطورية، اذ تسيطر عليه أباطرة الداخلية كبيزنس خاص (بالملكية للسيارات، وتشغيل السائقين من العناصر المشبوهة والمسجلين خطر، وعبر فرض الاتاوات وجمعها من خلال وكلاء من الأشقياء الخطرين المعروفين بجامعي الكارتة) والمسألة معروفة خصوصاً في المناطق العشوائية بالعاصمة وضواحيها. وما يحدث الان أقرب لعملية تحريك منظم لهذه المجموعات للقيام بادوار تخريبية غرضها اثارة القلاقل وتفزيع الناس انطلاقا من اعصاب المدينة ومحاورها عبر افتعال مشاجرات نري لأول مرة فيها استخدام للاسلحة النارية (وهو جديد لم يعتده الناس الذين تواضعوا علي ان مشاجرات هؤلاء الاشقياء تكون محدودة ويقتصر فيها العنف علي السلاح الابيض). الحملة هذه يغنم منها حماة طبقة الفساد والاستبداد فرصة استعادة سلطانهم، وتحصيل دعم شعبي لمقولة الأمن أولا وأخيرا. ويغنم منها الاشقياء الصيت الذي يجلب لهم سطوة تمكنهم من فرض الاتاوات، ويتيح لهم فرصة ادارة الاجرام المنظم والسرقات. وبهذا يحلون نظريا محل الدولة في القيام بالحراسة، لحين عودة اسيادهم من سدنة القهر الأمني. وينضوي هذا المخطط ضمن آليات أخري مجربة ومختبرة من قبل عناصر الأمن الموالية للمخلوع ودوائره المصلحية الفاسدة. آليات استخدمت بفاعلية لاثارة القلاقل والافزاع وأهمها طبعا المشكلات الطائفية (التي تشتعل علي خلفية تحول ديني لفتاة، او بناء كنيسة، أو مشاجرات عادية يكون طرفيها من المختلفين في الديانة) وقد احتكرت مباحث امن الدولة في عهد مبارك إدارة هذه الملفات الساخنة بعرض مصر وطولها. ويعلم خبراء الأمن ممن اشتغلوا عليها يقينا كيف يمكن أن تصعد هذه المشكلات لمستوي التهديد الأمني الذي يبتغونه. وبالمثل تستخدم الصراعات العائلية والقبلية والجهوية التقليدية في الريف والصعيد لتحقيق الغرض ذاته. فثمة تاريخ موثق وملفات كاملة بحوزتهم لهذه الاشتجارات، ،منها يعلم خبراء أمن الدولة الموالين للمخلوع كيف يحركونها وعبر من، وبأي كلفة. إنها عمليات الكونترول السهلة التي دأبوا علي ممارستها (والأقرب لأساليب ادارة الجريمة المنظمة) للتحكم في حركة مجموعات خطرة يمكن اطلاقها لاحداث إرهاق أمني علي نحو ما يحدث الآن. إنه عدم استقرار ينتظر هؤلاء الخائنون - المخذولون ان شاء الله- أن يؤتي ثماره مع تخلي قطاع كبير من الضباط الغاضبين عن فاعلية الاداء، ويشيعون في اوساطهم روح الانهزامية والقنوط، وبتقنيات الحرب النفسية التي تجيدها عناصر أمن الدولة، ليقنعونهم بالتمرد المستتر عبر التواجد الأمني الصوري دون القيام فعلاً بمهام التأمين وفرض القانون. هذا المخطط الذي تتساقط أمامنا شواهده لن تمكن مقاومته إلا بتنبي القوي الثورية لمطلب القضاء علي محركي الفتن وضباط الجريمة المنظمة. والضغط الواضح علي الحكومة للتعامل بجدية مع هذا التهديد للأمن القومي، ومطالبتها بالاسراع في وضع منظومة للمواجهة العاجلة لمظاهر التعدي علي حكم القانون من هذه النوعية، وبما يعيد الفاعلية الأمنية للشارع، ويقطع دابر المتآمرين. تنامي التهديدات الأمنية يدفع الجماهير لتطوير بدائلها لحماية انفسها. ولعل الخبر الذي تناقلته الصحف بالأمس عن لجان شعبية تطارد البلطجية وتقتلهم علي نحو ما جري في كفر الشيخ، يرينا بديل من بين البدائل التي سيعمد الناس لتبنيها، وهو بديل خطر يعيدنا لما قبل الدولة ويكاد يذكرني بسبب اقامة ما يشبه حد الحرابة بحق البلطجي القتيل (قطع يده ورجله) بالمحاكم الاسلامية في الصومال وتلك التي ظهرت في غزة في اعقاب الاشتباك بين السلطة وحماس. خيار الميليشيات الأهلية التي تنفذ قانونها الدموي الرادع يبرره احساس الناس المفزوعة بالافتقار للامن. ولو افترضنا غياب الدولة فسنقول أن الميليشيات وللجان الشعبية أمر جيد، لكن من يضمن ألا تجير اعمالها بعد حين لصالح قلة تمارس بذاتها البلطجة في ظل غياب القانون. إن وجود واستمرار هذه الخيارات الشعبية الاضطرارية يعني تضحيتنا بالدولة معني ومبني. آما الدولة فأمامها عدة بدائل، منها هذا البديل الذي بحت الأصوات لتنفيذه بقوة: بديل أن تنصلح الداخلية من داخلها، عبر استبعاد لعناصر الموالاة المتورطة في ممارسة جرائم القهر، والقيام بإعادة هيكلة للقطاعات المختلفة للوزارة. لكن يبدو انه حلم بعيد المنال. وهو ما يحيلنا لبديل آخر يتمثل في خطة عمل محكمة لاستعادة حكم القانون يقودها "مجلس للأمن الداخلي " بقيادة رئيس الوزراء شخصياً. فأمر استعادة الأمن قد ثبت أنه أكبر بكثير من قدرة وزير الداخلية وحده بغض النظر عن شخصه. ومهمة المجلس المقترح تشمل قيادة عملية الاصلاح الامني في الداخلية، واستعادة عناصر الالتزام والكفاءة الشرطية، وكذلك مهام التنسيق والمتابعة بين الاجهزة الامنية المختلفة، والأهم هو قيامه بمهمة استثنائية تتمثل في وضع خطة تدخل سريع تقوم بتنفيذها مختلف القطاعات في المخابرات والامن الوطني والجيش والداخلية علي نحو تشاركي. والأمر قد يحتاج لاستحداث قوة دعم وتدخل سريع (اقرب للحرس الوطني) ذات انتشار جيد عند اعصاب المدن والقري وبالقرب من منطق التوتر التقليدية. وتنشأ هذه القوة كجزء من عملية اعادة هيكلة الأمن المركزي، ويختار لها عناصر مؤهلة تعمل في شكل تشكيلات رشيقة، ويتم دعمها تسليحا وتقنية عبر القوات المسلحة. مع قصر تدخلها علي الحالات الجنائية كحالات البلطجة والاشتجارات واسعة النطاق ومنعها من الانخراط في اي اعمال أمنية ذات بعد سياسي. ودعم هذا التوجه بتنظيم قانوني معدل لمواجهة البلطجة والجريمة المنظمة بما يعطي الشرعية لهذه الخطة، وعبر أدلة عمل قانونية تضبط اداءات الضباط والجنود وتعرفهم كيفيات التدخل واستراتيجياته وحدوده القانونية. والحقيقة ان البدائل كثيرة. لكن فاعلية أي منها تتوقف علي توافر إرادة وطنية حاسمة وقرار ثوري وحكومي بالانهاء الكامل لهذه الظاهرة وعدم التسامح معها بحال. لكن أين هذه الارادة وقد انشغل الجميع بهمومهم التي يصفونها بالثورية وكأنهم يقولون أن مهمة الأمن وضبط نظمه ليست مهمة ثورية. إن استعادة الامن مهمة اراها اكبر من الامنيين قياسا علي ما تعلمناه في دروس علم السياسة من ان الحرب أمر اكبر من العسكريين، الأمن ضرورة قد يؤدي الافتقاد لها لوضعنا امام الخيار الصعب الذي بات يحظي مع مخطط فلول مبارك البارع بشعبية متنامية: خيار ان نختار بين أمننا الشخصي والحرية.