ربما هي المرة الأولى التي حظيت فيها محاكمة في التاريخ بهذا الاهتمام الإعلامي غير المسبوق منقطع النظير، فالقنوات الفضائية والإخبارية أذاعت على ملايين المشاهدين في العالم تفاصيل الجلسة الأولى في محاكمة الرئيس المخلوع وابنيه ومساعدي وزير داخليته في الزي الأبيض، ووزير داخليته المبتسم في الزي الأزرق، وشاهد الملايين السرير الطبي المتحرك يلج مدفوعا إلى القفص الحديدي على جانب قاعة المحكمة، ويدخل بصاحبه من باب التاريخ الذي يستحق، ولم يكن يتوقعه أبدا لا هو ولا ابناه .. وما لاحظته، ولاحظه كثيرون غيري هو أن لغة كل من كان في قاعة المحكمة كانت لغة عربية غير سليمة، بدءا من القاضي المحترم، حتى أصغر محام من المدّعين بالحق المدني، مرورا برجل النيابة ومحاميي المتهمين، الكل يرفع المجرور وينصب الفاعل ويجر المنصوب والفاعل، ولا احترام إطلاقاً لقواعد النحو العربي.. فأتت كل المرافعات سقيمة لغوياً، ليست فيها عناصر القوة اللغوية التي عرفها الجيل الذي سبقنا. فحتى نهاية الستينيات من القرن الماضي كانت لغة الإعلام والمتحدثين والساسة وأساتذة الجامعات والمدارس؛ لغة عربية سليمة إلى حد كبير، وكانت لغة القضاة والمستشارين والمحامين قوية رصينة مضبوطة إلى حد سحر البيان وقوة التعبير والتأثير، وبقي احترام اللغة في المجتمع على رأس أولوياته، وجيلنا يذكر كبار المذيعين والمتحدثين في الإعلام والإذاعة والتلفزيون ولغتهم المضبوطة، فماذا حدث ؟ لماذا تدهورت اللغة على ألسنتنا إلى هذا الحد المخزي أمام العالم ؟ لماذا تغلغلت العامية في لغة الإعلام حتى صارت هي الأساس في معظم البرامج باستثناء نشرات الأخبار ؟ إن اللغة العربية لغة قوية، كرمها الله تبارك وتعالى بأن أنزل بها القرآن الكريم بلسان عربي مبين، وحين قدم بها الفاتحون إلى مصر منذ أكثر من 1400 سنة؛ كان المصريون يتحدثون اللغة القبطية، وسرعان ما اندثرت القبطية أمام طوفان العربية لتصبح لغة التحدث والكتابة عند عامة المصريين وعند خاصتهم في حياتهم، وبقيت القبطية حبيسة الأديرة في النصوص القديمة ،لا يتحدث بها فيما ندر إلا الرهبان والخاصة من القساوسة، وعبر القرون ازدادت اللغة العربية قوةً وتمكناً في نفوس كل أهل البلاد التي دخلها الإسلام. أما الآن.. فإن الهوة قد اتسعت بين من يتحدثون العربية باللهجات العامية واللغة العربية السليمة، نتيجة اعتناق القائمين على التعليم في مصر لأفكار التغريب والاستسلام لعالمية اللغات الأوروبية باعتبارها لغات العلم والتقدم والحضارة، فأهملوا العربية لحساب اللغات الأجنبية التي درّسوها للأطفال في فترة ما قبل المدارس، لتصبح اللغة الأولى على ألسنتهم هي اللغة الأجنبية، وأصبحت العربية لغة ثانوية في كل مستويات التعليم، والتعيين في الوظائف المتميزة لا يكون إلا لمن يعرف لغة أجنبية أو أكثر، فانحطت اللغة الأصلية الفصحى، وتتابعت عقود الإهمال، وأصبح مجمع اللغة العربية كيانا تاريخيا متحفيا لا يقدم للغة جديدا، ولا يبذل رجاله أدنى جهد للنهوض بها من كبوتها.. وطلع علينا من الكتاب المحدثين من يطالب بإلغاء قواعد اللغة، والتغاضي عن الإعراب وقواعد التنوين والفتح والضم والمثنى والجمع، ومن الظواهر العجيبة أن تجد العديد من المتحدثين في الإعلام يحاول جاهدا إدخال الكلمات الأجنبية في حديثه في التلفزيون، باعتباره مثقفا لا يقدر على التعبير بالعربية !! بينما محطة إخبارية كالبي بي سي يحرص مذيعوها على نطق العربية ومخارج حروفها وضبط كلماتها وكأنهم يحرصون في الإذاعة الانجليزية على لغتنا التي أهملناها وأهنّاها.. ولا حول ولا قوة إلا بالله. إن الشعب الذي يتنازل عن لغته يتنازل عن أهم مقومات وجوده، والأمة التي تهمل لغتها تكتب بهذا الإهمال شهادة وفاتها، والأمل بعد الثورة المبروكة معقود على الجيل الجديد الذي أشعلها، لتكون ثورة على نظام التعليم الذي يهتم باللغات الأجنبية على حساب العربية؛ لغة القرآن والهُوية .. واسلمي يا مصر