أسماء وخلفيات الوزراء والمحافظين في التشكيل الوزاري الوشيك مهمة طبعاً، لكن الأهم هو السياسات التي ستنفذها الحكومة الجديدة ورؤيتها لإدارة الفترة الباقية من المرحلة الانتقالية.. الرؤية والسياسات المطلوبة ينبغي أن ترفع شعار الثورة تريد.. فالثورة تريد أن تصل لملايين المصريين في القرى والمدن الصغيرة.. الثورة تريد نهاية للأداء الشاحب الباهت الملتبس الغامض.. الثورة تريد أن يدرك الدكتور عصام شرف أن اعتصام ميدان التحرير هو طوق النجاة لتآكل شعبيته وفقدان الثقة في جديته نتيجة اضطراب الخطى والتردد وعدم الحسم، الثورة تريد من الوزارة الجديدة أن تحمل مبادئ عيش، حرية، عدالة اجتماعية إلى ملايين الناس كي تضيف لها حراس جدد في القرى والأحياء الشعبية قبل ميادين التحرير الثائرة في القاهرة وبعض المحافظات. في "الأرياف" والمدن الصغيرة والأحياء الشعبية، لا يوجد حس ملموس للثورة باستثناء الإحساس ببعض الفوضى وفقدان الأمن والتهديد الشخصي الذي تقوده فلول البلطجية والخارجين عن القانون، .. شرائح كثيرة من هؤلاء الناس لم تشارك فعلياً في لحظات الوهج الثوري، فغابت روح الثورة عن الأرياف في الدلتا والصعيد، وبقي البسطاء وأبناء الطبقات الشعبية قبل الإطاحة بمبارك وبعده الأكثر قبولاً للحلول الوسط على طريقة أن ما تحقق يفوق ما كنا نحلم به، وهؤلاء هم أنفسهم الذين يجلدون الثوار في ميدان التحرير الآن ويحملونهم مسئولية وقف الحال وفقدان الأمن وتبدد الأمل. صحيح أن نظريات علم الاجتماع تفسر غياب الروح الثورية عن سكان الأرياف نتيجة الطابع المحافظ الذي تتسم به أنماط الحياة هناك، إلا أن مسئوليتنا ومسئولية الحكومة الجديدة هي نقل روح الثورة وقيمها وفوائدها إلى هذه القوى الاجتماعية بالطريقة التي تقبلها وتفهمها وتستحقها بعد عقود من التهميش والتجاهل وضياع الحقوق. لن أتحدث عن الدور المتكامل للحكومة لخلق قاعدة شعبية أوسع للثورة وسأركز هنا على الدور المنوط بتحفيز شرائح المواطنين في القرى والمدن الصغيرة كي تؤمن بالثورة وتتأكد من أن تغيراً ملموساً حدث في حياتها اليومية وآليات تعاملها مع مؤسسات الدولة.. ويقينا لن يشعر الناس بإيجابيات الثورة وما أحدثته من تغيير إلا إذا بدأنا فوراً بإصلاح مؤسسات وهياكل الحكم المحلي التي أسقطها مجلس الدولة في حكم تاريخي بحيثيات عظيمة. أعلم أن إعادة هيكلة الإدارة المحلية والتأسيس لمجالس منتخبة بحق وحقيق سيواجه مشاكل وصعوبات جمة ليس فقط بسبب الفساد الذي عشش فيها ، بل بسبب سوء الإدارة وسوء الاختيار وضعف كفاءة الموظفين، لكنني أجزم بأن الخطوة الأولى للإصلاح ينبغي أن تبدأ من الآن وأن تركز على استبعاد كافة القيادات التي حولت مصر إلى دولة مماليك في القرن الحادي والعشرين، وإنهاء سيطرة نفس الوجوه المنتمية للحزب الوطني المنحل. إن استبدال رؤساء الأحياء ومجالس المدن والقرى الذين احتلوا مناصبهم بالانتماء للنظام الساقط أو كمكافأة نهاية خدمة، لا يقل أهمية عن استبدال الوزراء والمحافظين الذين أربكوا المرحلة الانتقالية، وضيعوا ستة أشهر في تفاهات إصلاحية وعمليات ترميم رديئة، وإذا كنا طالبنا بوزراء يتجسدون مبادئ الثورة، فهناك ضرورة لإيصال هذه المبادئ للناس في القرى والمدن الصغيرة عبر وجوه جديدة لم تتلوث أو تغرق في مستنقع النظام الساقط، مع تذكير هؤلاء القادمين الجدد بأن الثورة هي التي جاءت بهم إلى هذه المناصب وأن بقاءهم مرهون بخدمة الناس بأدب وتواضع واقتناع. مطلب إقالة واستبعاد رموز الإدارة المحلية الحاليين ليس نوعاً من الانتقام أو التشهير بل هو أول خطوة نحو تمكين الثورة وتغيير الهيكل الطبقي في المجتمع وإعادة الاعتبار لمواطن الدرجة الثانية والأهم هو بناء نظام ديمقراطي سليم في مجالس القرى والمدن والمحافظات.. إن التخلص من الوجوه الفاسدة والأنظمة القديمة في إدارة الأحياء ومجالس القرى والمدن، ليس هدفاً لذاته بل الهدف هو بناء منظومة حديثة تلبي طموحات الثورة وتحقق المفهوم الحقيقي للإدارة الذاتية. الناس تحتاج أن تشعر بلمسات الثورة ولن يترجم هذا الشعور إلا ثورة في الحكم المحلي لا تقتصر فقط على تغيير بعض المحافظين بل تكنس بقية الرؤوس الصغيرة، لذا فالمطلوب على وجه السرعة تعيين رؤساء جدد للأحياء ومجالس المدن والقرى لحين تغيير قانون المحليات بحيث تكون كل مناصب المحافظين ورؤساء مجالس المدن والقرى والعمد والمشايخ بالانتخاب الحر المباشر. أيضا ينبغي إنهاء مهزلة مكافأة ضباط الشرطة والجيش والقضاة بتعيينهم على رأس مؤسسات الحكم المحلي والهيئات التابعة لها، كما ينبغي البدء فوراً في تشكيل لجان بديلة للمجالس الشعبية المنحلة تضم أصحاب الضمائر والمشهود لهم بالنزاهة وطهارة اليد. كي يشعر المواطن بالتغيير نحتاج إلى تحويل مقرات الأحياء ومجالس المدن والقرى من مباني كئيبة ثقيلة على القلب تمثل إدارة الدولة المتجبرة إلى مؤسسات فاعلة ترحب بالمواطنين وتعمل من أجلهم بود وحميمية ، وهنا اقترح فتح نوافذ لممارسة أنشطة تجارية خاصة أو إقامة مكتبات عامة أو غيرها من المظاهر التي تخفف من إحساس المواطن بقهر الدولة وأنظمتها البيروقراطية. أعلم أن تغيير الشعور الفوقي المتجذر في نفوس موظفي الإدارات المحلية في تعاملهم مع الجمهور يحتاج إلى وقت وجهد، لكن من الضروري البدء في التغيير.. من أول طلبات وآليات تقديم الخدمة وأماكن استقبال الجمهور، انتهاءً بهيكل الإدارة المحلية ذاته، وأجزم بأن كل خطوة ننجزها على هذا الطريق سيشعر بها المواطن مهما كانت صغيرة والأهم أنه سيدرك بأن ثورة حدثت في مصر وأن قطوفها دانت إليه وعليه مسئولية حمايتها من العابثين والمتآمرين.